ترجمة وتقديم: أ. غسان حمدان
ولد علي أشرف درويشيان سنة 1941، في مدينة كرمانشاه الواقعة غربي إيران قرب الحدود العراقية، لعائلة كردية. عمل في التدريس الابتدائي في القرى والأرياف مدة، ثم انتقل إلى طهران حيث اشتغل مدرسًا في المعاهد العليا، حتى سجن ما بين سنتي 1970 و1976 بسبب نشاطه السياسي، فاضطر إلى التقاعد بعد ذلك؛ وانصرف إلى الكتابة والتأليف اهتم في قصصه إلى الشعبية والواقعية. كما أنه اهتم بالدراسات النقدية والأدبية وساهم في أدب الأطفال فنشر: “أساطير إيران” (30 مجلد)، “عروض وألعاب كردية”، “عادات وتقاليد أهل كردستان”، و”القاموس الكردي الكرماشاني”، ومجموعات قصصية..
تعتبر رباعيته “السنوات الغائمة”، التي أرخ فيها لمدينته حتى سقوط نظام الشاه، من أهم أعماله. كما أنه حصل في عام 2006 على جائزة “هيلمن هاميت” من منظمة حقوق الإنسان لدوره الثقافي ومكافحته الرقابة المتشددة في بلاده التي فرضت سطوتها على أعماله وكتاب آخرين. توفى درويشيان يوم الخميس 26 أكتوبر 2017 في بيته في مدينة كرج بسبب فشل في الجهاز التنفسي.
بفرينة
كانتا كلتاهما تجلسان عند حاشية الإيوان، تحت بريق الشمس. بفرينة متكئة على صدر أمها. والمرأة تحصرها بشدة بين ركبتيها. كان شعر بفرينة الأشقر، تحت أسنان المشط الخشبي، ينتشر ناعمًا وصافيًا على بشرتها وكتفها اللذين بلون ضوء القمر.
أمسكت المرأة المشط بفمها وفجَّت، بكلتا يديها، الشعر بأصابعها المتقشرة، باحثة عن الصؤاب 1. حكَّت بشرة رأس البنت السوداء بأظفارها. وجدت حبة صؤاب:
– هاك. انظري! امتلأ رأسك صؤابًا. شعرك متعثكل كاللباد. إنني أمشط ببطء شديد. مم تخافين؟
وضعت المرأة الصؤابة بين ظفري سبابتيها وأمسكتها تحت أذن بفرينة. لزمت بفرينة الصمت كي تسمع صوت انكسار البيضة الرقيق: طق…
كانتا تلتذان، كلتاهما، دائمًا، من هذا الصوت. تناولت الأم ثانيةً المشط من شدقيها وجرَّته على عجل فوق شعر فودي بفرينة. كان الشعر يتثنى كأساً كأسًا فوق بعضه.
– آخ! أذني! خلعتِ أذني!
ماذا حدث؟ لا بد أن أذنك من ورق. لو أن أذن الإنسان تنخلع من التمشيط، لما بقي لأحد في الدنيا الآن أذن.
– آه آخ.. آه أذني، أذني!
مدت بفرينة يدها على عجل فوق أذنها. نظرت إلى أناملها بانتباه كي تتأكد مما إذا كانت أذنها تنزف أم لا.
قالت أمها مازحة:
– هيْ هيْ، هي هي. سقطت أذنك وأنت لم تعرفي. يجب أن أذهب اليوم عند “مامو مقدور” وأشتري لك أذن عنزة.
كان على أرض الإيوان الترابية طفل قد بلل ما تحته، وراح يأكل أصبعًا فأصبعًا من الطين الذي تحته.
انتبهت إليه المرأة:
– هيْ يا يوسف.. إخه.. إخه.. هيْ تف على فعلك هذا! انظروا أي وليمة أقام… كما لو أنه يأكل بقلاوة تنُّورية! التعيس…
كانت الفقاعة الموجودة على أحد منخري الولد تكبر وتصغر باستمرار.
أوصل يوسف نفسه، زاحفًا على مؤخرته، إلى أمه. سحبت بفرينة نفسها من قيد ركبتي المرأة.
مخَّطت المرأة، بطرف قميصها، أنف الطفل. وأدارت أصبعها في فم الطفل وأخرجت قطعة طين. وانزلقت الفقاعة على زهور قميصها الحمراء وصغرت شيئًا فشيئًا حتى انعدمت.
ذهبت المرأة إلى الغرفة. تناولت من إحدى الزاويا المظلمة عباءة قديمة، فرشتها على الأرض، ثم لفَّت يوسف بالعباءة. اقتربت بفرينة من أمها ووقفت مولية إياها ظهرها. ربطت المرأةُ الطفلَ بظهرها:
– لو واصل الانزعاج فُكِّيه. انتبهي لا توقعيه أرضًا! انتبهي للدجاج والفراخ. لا تمدي أصبعًا إلى جحر الأفاعي وما شاكلها! لا تلتقطي شيئًا غير مناسب فتأكليه! من أجل غذائك بقي شيء من السلطة ليلة أمس. كليها ظهرًا مع الخبز. وضعتُ الخبز اليابس في الرف، عندما يجوع يوسف دُقِّيه واعجنيه وأعطيه إياه. لا تدعي الذباب يستقر على فمه وأنفه.
فيما المرأة توصي، شدت لفيفة الخبز بخصرها. ذهبت نحو الحائط التبن – طيني. تناولت كيس اللبن عن المسمار. أدخلت نهاية منجل تشذيب الأغصان بنطاقها. رفعت لفيفة الحبل التي كانت ساقطة جنب السلم ووضعتها على كتفها. لم تكن قد وضعت قدميها على السلم بعدُ حتى جعلت بفرينة يوسفَ يستقر في مكانه بهزة واحدة. مسحت يدها بتنورتها، وسحبت من جيبها رسالة مدعوكة. أشارت لأمها بضعة سطور انمحت بفعل مسح الأصابع. لوت عنقها. قالت بخجل ومتوسلة:
– أماه، أتقرئينها لي مرة أخرى؟
التفتت المرأة. انفتحت شفتاها بابتسامة باهتة. أخذت الرسالة من البنت. تأملت وجهها الشاحب. تنهدت:
– الوقت يمضي. هذه الرسالة جاءت منذ يومين. وقد قرأتها لك ألف مرة. تعبت والله.
فجأة، احترق فؤادها. مسحت على شعر بفرينة بيدها:
– كوني بنتًا طيبة اليوم، افعلي كل ما قلته كي أقرأها لك عند المغرب لمَّا أجيء.
اتكأت بفرينة برأسها على بطن أمها وقبّلت كفها بهدوء. خطفت الرسالة ودفنتها في جيبها. أقفلت يديها من وراء، تحت عجيزة الطفل. برطم الطفل، وقد أحس بأمه تريد الابتعاد، واستدار نحوها، ولكن بفرينة قفزت عدة مرات في الهواء. أخذ الطفل يضحك. ركضت بفرينة إلى أدنى الباحة وجلست جنب عش الدجاج والفراخ.
سمعت الأم، في الزقاق، ضحكة الطفل فارتاح فؤادها.
وصلت المرأة سفح التل. كان خيط كيس اللبن يؤذي معصمها. فتحته ونقلته إلى اليد الأخرى. نقَّلت الحبل على ظهرها. سمَّرت عينيها على الطريق الملتوي الذي يهبط من ذروة التل إلى أسفل فيتسع. كان رجل يكافح ليدحرج كومة حطب على الطريق الأفعواني. في بعض الأحيان كانت كومة الحطب تجر الرجل وراءها فكان يخرج، مضطرًا، عن الطريق الأفعواني. وفي أثره كان غبار كثيف يرتفع في الهواء ويلف في طياته الرجل بضع لحظات.
كان مامو مقدور الراعي، على بعد بضع خطوات من القطيع، يسحب بمحفاره الجذور القابلة للأكل من قلب التراب، ويغني أغنية غريبة:
بمحراث الغم، حرثت أرض الغم.
ونثرت فيها بذْر الغم.
كان حاصلي الغم. حصدته بمنجل الغم.
أخذت حبوب الغم إلى طاحونة الغم. عجنت طحين الغم بماء الغم.
وخبزته في تنور الغم.
وضعت خبز الغم على سُفرة الغم. كان جليسي عند السفرة الغم.
جلست إلى جانبه وأكلت الغم.
– السلام عليك يا مامو مقدور.
أقام الشيخ ظهره وأدار عنقه:
– السلام عليكم وعليكم السلام، يا سليمة خانم. ما أخبار حَمَه؟ 2
– وصلت رسالة منه قبل يومين أو ثلاثة، كتب أنه سيحصل على إجازة بعد بضعة أيام فيأتي يمر بنا.
– ليحمه الله، ليأت بخير وسلامة إن شاء الله.
– سلمت يا مامو. ليعدْك الله من الشيخوخة إلى الفتوة مرات عديدة.
بلغت سليمة شجرة البلوط في أسفل التل. كان غراب جالسًا على الشجرة فنعب ثلاث مرات: قار.. قار.. قار.
أجابت سليمةُ الغرابَ:
– لتكن طيب الأخبار.. لتكن طيب الأخبار.. لتكن طيب الأخبار. عقفت سبابتها ومسحت عرق حاجبيها. أحنت ظهرها ووضعت قدمها على الطريق الأفعواني.
في منتصف الطريق بلغت رجلًا كان يُنزل حمل حطبه. عرفت الجار:
– قوَّاك الله يا “خالو مراد”.
– لتكوني سالمة صالحة يا أختاه. كيف جئت في وقت غير مناسب؟!
جددت سليمة أنفاسها:
– إن المرأة التي لها أطفال، نصفها لا يخصها يا “خالو”. إلى أن دبَّرْتُ وضعَ الأطفال مضى نصف النهار.
قال الرجل:
– طيب. الجيد في الأمر أنه في أيام الربيع ينال كل امرئ شغله ومناه. مهما أردت فالنهار طويل ويكفي.
وأشار إلى نقطة بعيدة أعلى التل:
– انتبهي للأجمة. ارتعبت الحيوانات من هدير المدافع والطيارات. إنها تهجم بدون سابق إنذار.
– أنا منتبهة يا خالو. الإنسان العاري الحافي بطل. أنا نفسي لا أقلُّ عنها بشيء.
كان الربيع قد استقر في كل مكان. والريح تجلب الرائحة المرة لبراعم لوز الجبل. كانت سليمة متعبة، تضرب بنهاية المنجل الغصون، يمينًا ويسارًا، وتصب العرق. احمرَّ وجهها وصار بجمال خبز رقيق وظرافته. مضى وقت طويل على الظُهر. اتكأت على جذع شجرة. أرادت أن تفتح خيط كيس اللبن عندما هز هديرٌ الأجمةَ. خفقت بضع براعم من شجرة اللوز الجبلي وانهمرت على الأرض. قفزت سليمة مرتعبة عن مكانها. كانت ثلاث طائرات تحلق في الجو ويرتفع إلى الهواء غبار انفجار وراء تل من التلال.
كانت ريح خفيفة تثير بهدوء غبارًا عديم اللون وتجلبه إلى جانب القرية الممتدة الآن تحت قدم المرأة، صامتة ساكنة.
همهمت سليمة بهدوء:
– شكرًا لله، بعيدة عنا كثيرًا.
بدوي بضعة تفجيرات أخرى ابتعدت العصافير بصخب عجيب.
صمت كل مكان وخلا. كان غصن يُسحب على جذع شجرة ويند عنه صوت كصوت حكِّ بدنٍ بالأظفار. وكانت رائحة كريهة وغير معروفة تأخذ رائحة براعم اللوز المرة.
أحست سليمة حكة في حنجرتها. سعلت. نهضت وألقت، قلقة، حمل الحطب في الطريق الأفعواني.
*
كان جناح الشمس يرتفع عن السهل والتلال البعيدة. ويميل لون القرية، في ظل التل، إلى الزرقة. لفت سليمة ذيل الحبل بإحكام حول يدها وراحت تزحلق على مهل، وهي تنضح عرقًا، الحمل من منحنى كل لفَّة، وترخي الحبل وتشده كي تتم السيطرة على حمل الحطب فلا يسحبها معه إلى قعر الوادي.
عندما بلغت آخر لفات الوادي ضاق نفَسها. كانت الرائحة الغامضة لا تزال في الهواء. تبلغ المشام أحيانًا على نحو أكثر حدة وفي أحيان أخرى ترق مع هبوب الريح.
جلست سليمة على الأرض وأخذت – مكافِحةً – حمل الحطب على ظهرها. كانت راحتا يديها تحرقان وتشيطان.
وصلت عند شجرة البلوط. كان غراب قد ارتفع ساقاه في الهواء وبقي هو على الأرض.
وكان مامو مقدور يتكئ، بلا صوت وهادئًا، بشجرة.
لم تنتبه المرأة على نحو صحيح إلى أن مامو مقدور قال شيئًا كما يفعل دائمًا:
– لا أصابك التعب. فلتأت بخير!
ولكن المرأة تنهدت بتعب وأعطت جوابها الدائمي:
– سلمت يا مامو!
ونظرت شاكَّة إلى مامو مقدور. كان مامو وضع رأسه على ركبتيه. محفاره في جنبه وقد تدلت يده إلى أمام. وقد انبثق جذر نباتٍ، نصف مأكول، عند قدمه.
تصورت المرأة أن مامو كان يشد رباط (خامينه)ـته 3، لهذا فقد سعلت وقالت بصوت مرتفع:
– إنك نائم دومًا يا مامو. حل المغرب. متى تريد إعادة القطيع، يا معمور البيت!
لم يتحرك مامو. تأملت المرأة الخراف. كان أحدها يضع رأسه على ظهر الآخر وهو هادئ. لم تكن الخراف تسعل. لم تكن تجتر. وكان كلب القطيع قد ألصق عنقه ببرودة التراب.
كانت ريح تهب ملائمة. تقل الرائحة وتقل. ولكن حنجرة المرأة ما زالت تحك. تركت الحبل باضطراب مبهم. سقط الحبل على الأرض.
مضت نحو مامو. صاح طائر على البعد:
– ويْ ويْ.. وي وي.. وي وي..
استقر الفزع في قلب سليمة، لكنها تقدمت. وضعت، مترددة، يدًا على كتف مامو:
– يا مامو لماذا…
تدحرج مامو على الأرض وبقيت عيناه الممغوصتان صافيتين على قوس السماء.
صرخت سليمة وابتعدت عن مامو. اشتبكت قدمها بأشلاء خروف فسقطت على وجهها فوق اثنين أو ثلاثة من الخراف. طارت في الهواء صارخة. كان كلب القطيع قد تيبس في مكانه.
قرعت سليمة صدرها بجمعها. رفعت قبضتها إلى شلال ضفائرها وخمشت وجهها. عندما أوشك منديل رأسها أن يسقط، أحكمت شدَّه وركضت بركبتيها عديمتي الحس نحو بيتها.
عند حاشية القرية وصلت أول البيوت. بيت خالو مولود. كان حمل حطبه لا يزال بجانب جدار الباحة.
كان خالو مولود مائلًا على جانبٍ قليلًا. كان متكئًا على جدار بيته.
في يده “گيوه” 4 نصف محاكة. سقطت كِبة خيطها في المنحدر. كان رأس الخيط يتدلى من زاوية شفته، تحت أسنانه.
خمشت سليمة وجهها. نفر دمٌ من تحت أصابعها. صاحت من صميم فؤادها:
– يا خالو.. يا خالو، أي بلاء وقع على رؤوسنا؟
كان خالو مراد صافنًا على أعلى الجدار بعينين جاحظتين.
كانت تلك الرائحة الغامضة تقل وتزداد مع هبوب الريح. فتحت المرأة باب باحتها الخشبي الذي كان بجانب بيت خالو مولود جدارًا لصق جدار، بضربة جسد واحدة:
– بفرينة.. يا بفرينة عزيزة قلبي، أين أنت؟!
أوصلت نفسها ببضع خطوات إلى باب عش الدجاج:
– سيدتي بفرينة. ظريفي يوسف. ناما. لأمُتْ من أجلكما يا إلهي. هل أكلتما شيئًا ظُهرًا أم لا؟!
كانت بفرينة قد أنامت، كأم رؤوم، يوسف على ساعدها الشبيه بأنبوبة الأرجيلة. كانت الفراخ متناثرة جنب الدجاجات، بلا نفس. وكانت الدجاجات قد بقيت بلا حركة، ورؤوسها تحت أجنحتها.
هزت المرأة يد البنت الصغيرة والقذرة كي توقظها. كانت الرسالة تهتز بهدوء، مفتوحة، بين يوسف وبفرينة. وقد ازدادت بضعة سطور الرسالة الممحوة انمحاءً.
هوامش:
1. الصؤاب هو بيض القمل.
3. نوع من حذاء ريفي بلا وجه.
4. ملبوس رجل وجهه محوك من خيوط القطن، أو الصوف أو الحرير.
(تُنشر القصة لأول مرة بإذن كريم من المترجم)