ذاكرة الأمة تعتمد بشكل كبير على الجانب المرئي، فهو الجانب الأكثر تحققًا، وكما يقول المثل “ليس من سمع كمن رأى” نرى أن ليس هناك أكثر تأثيرًا من أن ترى الحقيقة مصورة أمام عينيك، فحروب التلفاز على سبيل المثال أكثر تصديقًا عن حروب الكتب، وهذا ما لجأت إليه دول العالم لتصوير أحداثهم الجسيمة، أو حتى لحظاتهم الحميمية البسيطة، من أجل توثيقها مرئيًا لتتخذ صفة الخلود، فلا يعتيريها نسيان.
بداية
ربما كان ذلك الأمر هو ما دفع الشاه القاجاري مظفر الدين عام 1900 إلى أن يطلب من المصور إبراهيم خان أن يشتري آلة تصوير سينمائي، ويصور مهرجان الورود في باريس، ليصبح بذلك أول فيلم وثائقي إيراني في التاريخ، بالطبع كان الفيلم مجرد إرهاصات بدائية لصناعة الأفلام الوثائقية الكبرى فيما بعد، لتعد البداية الحقيقية على يد المخرج بابا خان معتضدي، الذي سافر إلى فرنسا، وعاد إيران إلى إيران حاملًا معه كاميرته الغامونت، ليصور ويسجل الكثير من الأحداث السياسية التي عاركتها بلاده آنذاك.
فترة الحرب العالمية
أما فيما يخص بداية تسجيل أفلام عن العلوم الإنسانية، فلم تكن بداية فكرة إيرانية، ولكنه بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا في عام 1925 قام بعض العلماء الإيران بتصوير فيلم بتصوير فيلم “العشب” وهو فيلم يتناول حياة إحدى القبائل البختيارية الرحل وهم قبائل كردية لازالت تعيش حياة البداوة والترحال، رافضة حياة الحضر، في حين يبلغ تعدادهم أقل من مليون نسمة، وقد تم اعتبار هذا الفيلم كأول نقطة انطلاق حقيقية للفيلم الإيراني، غير أنه مُنع من العرض داخل إيران، إذ قيل أنه يتناقض مع الأهداف التنموية في إيران.
لم يكن هذا الفيلم المصحوب بفريق وإنتاج أجنبي داخل إيران، بل تبعه فيلم آخر تم تسجيله عام 1930 حول تاريخ خط السكك الحديدية في شمال إيران، وهو الذي تعرض لعديد من الاتهامات أيضًا، بوصفه تصويرًا لحياة الترحال داخل إيران، ثم لحقه فيلم فرنسي هذه المرة عام 1931 والذي حمل اسم “القافلة الصفراء” والذي يصور حياة القرويين، وعلى نفس المنوال السابق تعرض هو الآخر للانتقاد، الأمر الذي تسبب في إصدار قانون إيراني يقضي بحذف كل ما يقدم ما سموه “بالصورة السلبية” عن إيران.
ثم مع بداية الحرب العالمية الثانية، ظهر اتجاه جديد لتوثيق الحرب من خلال الأفلام، إذ كان يتم تسجيل اللقاءات، وتصوير المعارك، ثم يعرض ما تم تسجيله في دور السينما، وبناء عليه قرر الجيش الإيراني هو الآخر أن يفعل كما تفعل بقية الجيوش، فقام ببناء “استوديو الجيش” والذي سار على النهج نفسه.
تطور
أما في خمسينيات القرن العشرين، فقد شهد الإيرانيون حادثة هامة وهي “تأميم النفط” الأمر الذي تسبب في عديد من الأفلام التي جاءت إيران من أجل توثيق الحدث، ومع قدوم الفرق الخارجية جاء فريق من المخرجين تابع لجامعة “سيراكيوز” عام 1984 لتطلب منهم الحكومة البقاء وتدريس الإخراج وإنتاج الأفلام، وهو ما نتج عنه كثير من الأفلام فيما بعد.
وفي عام 1950 كان هو بداية الجيل الجديد من المخرجين الذين سيصيروا فيما بعد من أهم مخرجي إيران وأشهرهم، حيث قدم هذا الفريق من الخارج بعد سفره لدراسة السينما، وصنع بالفعل كثير من الأعمال الهامة، وأبرز هؤلاء المخرجين هم فرخ غفاري، حسن شرواني، كذلك تميز مخرجي هذه الفترة بالتجديد والطابع المتميز، فظهر لكل مخرج ما يميزه إذ عرف المخرج “إبراهيم جلستان بأنه صاحب الأسلوب الشعري في أفلامه الوثائقية، كما عرف أيضًا المخرج أفشار نادري بأنه يقدم المعمار بطريقة مدروسة في أعماله.
وعلى الرغم من الاحتفاء الكبير الذي حظى به المخرجون الإيرنيون، إلا أنه تم توقيف البعض أيضًا بسبب أعمالهم، وكان أبرز الحوادث على الإطلاق المخرج “كامران شير دل” الأمر الذي استتبعه ظهور سياسية رقابية صارمة بعض الشىء وجهت المخرجين نحو “الموضوعات غير الخطرة” مما جعلهم يتجهون إلى الموضوعات الاجتماعية والتاريخية بشكل كبير.
احتفاء
وبحلول عام 1966 تم إنشاء الإذاعة والتليفزيون الإيراني، وهو ما نتج عنه الحاجة إلى مخرجي الأفلام الوثائقية، وهو ما تسبب في الحفاظ على الكثير من التراث الإيراني عبر تلك الأفلام، وبانتصار الثورة الإسلامية في عام 1979 كانت الثورة مادة خصبة لوجود هذه الأفلام، حيث ظهر كثير من الأفلام التي قد وثقت هذه الفترة من مواجهات وتظاهرات وإضرابات.
أما فيما يخص بالحرب مع العراق التي بدأت منذ عام 1980 فقد أوجدت نوعًا جديدًا في السينما الإيرانية عُرف باسم “سينما الحقيقة” كما صار عدد من المخرجين الذين وثقوا الحرب إلى مجموعة من أشهر المخرجين فيما بعد، وذلك مثل أحمد رضا درويش، إبراهيم حاتمي كيا، رسول ملا، أما بعد الحرب فقد كانت الرغبة في العودة للسينما الوثائقية الهادئة البعيدة عن بنادق ورحى الحرب كبيرة، فركزت السينما على الموضوعات الاجتماعية بشكل كبير.
وفي العصر الحديث صار التركيز كبيرًا على السينما الوثائقية، إذ ظهرت كثير من المؤسسات غير الربحية التي تدعم أفلام الشباب بالتكلفة البسيطة، خاصة بعد ظهور التكنولوجيا الحديثة وسهولة حمل الكاميرا وتوفرها بشكل كبير، بجانب المجلات النقدية والبرامج التليفزيونية التي صارت تلقي الضوء على الأفلام الوثائقية عن ذي قبل، كما استطاعت الأفلام أن تحظى بمشاركة دولية واسعة في مهرجانات عديدة مؤخرًا، بل وتحوز الكثير من الجوائز العالمية.