يشهد الوقت الحالي خطابًا تناقُضيًّا ملموسًا بين الدبلوماستين الأميركية والإيرانية، وحركة تتسم بعدم الانضباطية والالتباس في ظل التقارُع والتحادُد بين الجانبين لاسيما الإيراني الذي أعلى من أسهُم التهديد والوعيد والتحذير من الاقتراب من الشأن الإيراني برُمتهِ، بينما على الجانب الأميركي نرى انحدارات من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى في أسلوب الخطاب والأدوات المفاهيمية المُستخدَمة فيه.
وفي هذا التقرير نرصد الحالة الخطابية التصادُمية بين الطرفين في الآونة الأخيرة، واضعين إياها في حالة رصدٍ وتحليل واستنباط لنعلم هل هذه الخطابات من الجِدية بمكان لأن تُوضَع قيد التنفيذ، حتى وإن كان الخيار هو الحرب، أم هي لا تعدو كونها مكايدات سياسية هدفها النِديّة؟.
ترامب وإدارته: خطاب الحرب والسلام
أعلن ترامب في كلمةٍ ألقاها أثناء لقائه مع المحاربين القدامى في الحروب في الخارج عن استعداد بلاده لعقد صفقةٍ جديدةٍ مع إيران بصدد اتفاقٍ نوويٍّ جديد، قائلًا: “سنرى ماذا سيحدث، لكننا مستعدون لعقد صفقةٍ حقيقيةٍ، وليس مثل الصفقة التي عقدتها الإدارة السابقة، والتي كانت كارثية”.
خطاب ترامب أعقبه تحذيرًا شديد اللهجة وجهه ترامب نفسه صوب الرئيس الإيراني، حسن روحاني، من أن طهران ستواجه عواقب خطيرة غير مسبوقة في حال استمرت بتهديد الولايات المتحدة.
بينما أفاد المكتب الإعلامي للبيت الأبيض، أن مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، چون بولتون، قال إن الرئيس دونالد ترامب، وعد بأن يجعل إيران تدفع ثمنًا باهظًا لم تدفعه سوى دول قليلة على وجه الأرض، في حال أقدمت على أفعال خاطئة.
فقد كتب ترامب على حسابه على تويتر قائلًا لروحاني:
“لا تهدد الولايات المتحدة بعد اليوم، وإلا سترى عواقب لم ير مثلها سوى قلة على مدى التاريخ“.
وأضاف: “لم نعد بلدًا يتهاون مع كلماتكم المختلة بشأن العنف والموت.. احترسوا!”
كما شنّ وزير الخارجية الأمريكى، مايك بومبيو، هجومًا حادًا على طهران، فى كلمةٍ ألقاها بالمكتبة الرئاسية فى كاليفورنيا، بأن نظامها أصبح يُمثل كابوسًا لشعبه، وأن على حلفاء واشنطن ممارسة الضغوط المالية من أجل ردع حكومة طهران، لأن على حد زعم بومبيو، فالاقتصاد الإيرانى يزداد قوة، والمكاسب تدخل فى جيوب قلة من الزعماء، فى حين يعيش ثلث الشعب تحت خط الفقر.
بومبيو حذا حذو رئيسه، وغرّد على تويتر بتغريدتين، أشار فيهما أن النظام الإيراني قد تسبّب في المعاناة والموت والإرهاب للإيرانيين، والعالم بأسره وخاصةً أوروبا عبر ما أثاره من اغتيالات وتفجيرات فضلًا عن الهجمات الإرهابية الأخرى، وإرعاب عدد لا يُحصى من البشر.
مضيفًا أن أوروبا ليست محصنة من ذلك الإرهاب الإيراني. فقد أُديِن هذا الشهر دبلوماسي إيراني في ڤيينا بمؤامرةٍ لتفجير تجمع انتخابي في فرنسا. وهذا في الوقت الذي الذي يحاول النظام الإيراني إقناع أوروبا بالبقاء في الاتفاق الإيراني.
كما صرّحت هيذر نويرت، المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، أن الولايات المتحدة الأمريكية تعد مجموعة من العقوبات على إيران نتيجة تصرفاتها بمنطقة الشرق الأوسط.
إيران: حديث الحرب
بينما على الجانب الإيراني، فقد كانت اللُغة موحّدة إلى حدٍّ كبير، وتدور في فلكٍ واحد، ولقد كان التذمُر والغضب والتصعيد هي اللهجة التي سادت كلمات الجميع، فقد بيّنت إيران على لسان الذين تحدثوا منها بصدد التعامل مع الولايات المتحدة الأميركية عدم الاكتراث أو اللامبالاة بحجم الولايات المتحدة، ولا وزنها الدولي أو قوتها العسكرية الفائقة التي تلوح بها بشكلٍ شبه دائم في وجه إيران.
رأس النظام التنفيذي ومُمثِّل البلاد، رئيس الجمهورية، حسن روحاني، وجّه حديثه صوب الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها حينما قال “لا تلعب بذيل الأسد”، كما أكّد روحاني على أن “الحرب مع إيران هي أم الحروب والمعارك”، محذرًا نظيره دونالد ترامب من مواصلة السياسة العدائية مع طهران. وأنه لا جدوى من إعلان الحرب على الشعب الإيراني ثم التشدُق بالقول بدعمه وحمايته، كما أكد على أن ترامب عاجز عن إثارة الشعب الإيراني ضد أمنه ومصالحه.
كما قد أضاف روحاني أن أميركا إن أرادت أن تُبرِم السلام مع إيران فستجده سلامًا حقيقيًا لا مَرية أو اعوجاج فيه، وأن إيران ترغب في تحسين علاقاتها بدول الجوار قاصدًا دول الخليج.
كذلك المرشد الأعلى للثورة، علي خامنئي، لم يُفوِّت الفرصة التي سنحت له لتهديد للولايات المتحدة، فقد أعرب عن دعمه لفكرة عرقلة صادرات النفط من دول الجوار عبر مضيق هرمز؛ إذا أدت العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران إلى وقف شراء النفط الإيراني. كما أضاف أنه لا جدوى أو فائدة من الحوار مع الولايات المتحدة، والذي سيكون خطأً فادحًا إن تم.
وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، ردّ على تهديدات ترامب عبر حسابه على تويتر قائلًا: “لم نتأثر… سمع العالم قبل عدة شهور تهديدًا ربما كان أقوى. ودأب الإيرانيون على سماع تهديدات، لكن أكثر تحضُرًا، على مدى 40 عامًا. نحن موجودون منذ آلاف السنين، وشهدنا سقوط امبراطوريات بما فيها إمبراطوريتنا التي امتدت على مدى أطول من عمر بعض الدول”.
مضيفًا بحروف كبيرة مثلما كتب ترامب في تغريدته “احترسوا!.
كما قد قال المتحدث باسم الخارجية، بهرام قاسمي، إن “الظروف التي تمر بها أميركا كدولةٍ معزولةٍ قد أدت بالإدارة الراهنة للشعور بالغضب الشديد. مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة كانت تتوقع من إيران موقفًا انفعاليًا عقب خروجها من الاتفاق النووي ما يسمح لها باتخاذ سلسلة من الإجراءات عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ إلا أن حكمة ويقظة إيران أفشلت مخططاتها.
لم يتوقف الأمر عند هؤلاء، ولكن امتثل الخطاب بصورةٍ أكثر شدةً وإقحامًا لخطابٍ غارق في العسكريتاريا والآلة الحربية، عندما أكّد رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية، اللواء، محمد باقري، أن التهديدات الأميركية لبلاده ستُواجَه بردٍ مُوجِع يدفع واشنطن إلى الندم.
وقال في بيانه، إن الرئيس الأميركي يتوهم إيجاد هوة بين أبناء الشعب الإيراني من خلال الضغوط الاقتصادية، مشددًا على أن الشعب متحدٌ وقادرٌ على تحويل التهديدات إلى فرص، مُشيرًا أن بلاده تضمن أمن الملاحة في الخليج وهي قادرة على اتخاذ أي تدابير في هذه المنطقة.
أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام، محسن رضائي، رد هو الآخر على تهديدات ترامب الأخيرة لإيران.
حينما قال في تغريدةٍ له على خسابه على تويتر : “لقد قال السيد ترامب للسيد روحاني حذار، أنتم يجب أن تحذروا، لأن خمسين ألفًا من قواتكم تحت حِراب إيران، وتهددون هكذا كالمجانين”.
نحو الجنون
لا شك أن هذه الحرب الكلامية والتناشُب غير الطبيعي بين الخطابات المتناسلة من كل حدبٍ وصوب تقودنا إلى المسار الأكثر ظلاميةً وجنونًا في عالمٍ تغلي فيه مراچله وصفائحه على أصعدةٍ ملتهبة من الأساس.
وهذا ما دفع برلين لملاحظة ذلك الأمر، والتدخُل لمحاولة تبريد الأجواء وإزالة الصخب الحادث فيها، عبر انتقادها اللهجة المتشددة في النزاع القائم بين الولايات المتحدة وإيران. وقد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية: “إننا نُعوِّل على إجراء محادثات وحوار، وندعو جميع الأطراف -ويسري ذلك بشكلٍ واضحٍ تمامًا على الجانب الإيراني- للاعتدال ونزع السلاح الخطابي”. وأضاف أن أي تهديدات باستخدام عنف عسكري لن تساعد على الإطلاق، ولن تكون “وسيلة مساعدة لإجراء نقاش” لاسيما في ظل الوضع المحتدم في منطقتي الشرق الأوسط والأدنى.
بالطبع لا تُريِد الدولتان سواء كانت أميركا أو إيران، الدخول في وضع الحرب والقتال والسير نحوه، لعلمهما بمدى كُلفة وضريبة هذه الحرب، والتي بالطبع ستختلف وستتفاوت بشكلٍ كبير بين البلدين، ولكنها على أي حال ستُصيب البلدان بأضرارٍ بالغة هما ليس لديهما القدرة على إعادة ترميمها مجددًا.
فرُغم تزايد حدة التصريحات، إلا أن لدى كل من الجانبين أسبابًا تدفعهما إلى تفادي نشوب صراع يمكن أن يتصاعد بسهولة، كما يُفنِّد هذه العِلّة مسؤولون ومُحلِّلون.
فقد قال مسؤولون أمريكيون، أن تعليقات ترامب جاءت في إطارٍ وابل من الخطابات فضلًا عن المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي بهدف إثارة القلاقل والضغط على إيران لإنهاء برنامجها النووي ودعمها لجماعات متشددة، إذ أن هذا هو الهدف الذي تعتد به الولايات المتحدة؛ وهو وضع إيران في حالةٍ أو وضعٍ يجعلها تشعر بأن الأُفق لديها مُظلِم وأن تخضع بالكُلية لأمر الولايات المتحدة، بحُكم الحصار الاقتصادي الخانق الذي تفرضه عليها.
بل أن هذه النتيجة هي نفسها التي وصل إليها قائد قوات الباسيج الإيرانية، الچنرال، غلام حسين غيب برور، الذي قلَّل من حجم التهديدات الأميركية حينمال قال إن “تصريحات ترامب الموجهة ضد إيران هي حربٌ نفسية. إنه ليس في موقع يسمح له بالتحرك ضد إيران”.
مما يُعزِّز هذه الفرضية أو الأطروحة، كما تنقل ” دويتشه فيلله” في تقريرها، هو الوضع الذي كانت عليه العلاقات بين ترامب والزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ اون، والذي كان أشبه بحربٍ دون الحرب الحقيقة قبل أن تخف حدتها ويعقد الزعيمان قمةً تاريخيةً، في 12 من يونيو / حزيران الماضي.
لذلك فيُنظَر إلى هذا الخطاب رغم حدته وفظاظته وشدته التي تُهيِّئ العقول إلى أن ثمَّ أمرٌ خطير يلوح في الأُفق وأن الجنون قائم وسيندفع العالم نحوه بهذه الحرب المُدمِرة، يُنظَر إليه على أنه ما هو إلا “تنفيث” لبركانٍ تثور حِممه في داخله وتتطاحن بعضها البعض.
فهذا التنفيث هو الضمانة الوحيدة وصمام الأمان، الذي سيحول دون الوقوع في المحظور.
بالطبع فأن هذه الضمانة واهيةٌ في حد ذاتها، فلا يمكن الاعتداد مُطلقًا بخطاباتٍ وتصريحاتٍ ستُوقِف مسار حربٍ إن هي أُشعِلت أو ستُحرِك عجلتها إن هي كانت من الأساس غارقةً في الرمال، ولكن سيظل الوضع قابلًا للانفجار في أي لحظة فلرُبما تضع الحكمة أوزارها وتشتعل الحرب التي لن تظل بأي شكلٍ من الأشكال، وفي الوقت نفسه لن تأخذ مسارًا مباشرًا يجعل البلدان في حاجةٍ لتصعيد قتالهما.
فهل يهدأ الوضع بين إيران وأميركا أم يشّي بما هو أسوأ؟، سؤال لن تُجيِب عنه سوى الأيام المقبلة.
المصادر