يشير راسموسين في تقريره، أنه أثناء زيارة روحاني إلى سويسرا، أبلغ ردّه على تصرفات الولايات المتحدة الأميركية بتشديد الحصار الاقتصادي عليها عبر إيقاف التعامل الدُولي معها في مجال النفط، بالتهديد بتعطيل حركة النفط من الشرق الأوسط عبر الخليج العربي، ورفع من مستوى تهديده -وهذا شيءٌ جديد على شخص روحاني- بإمكانية قيام إيران بإغلاق مضيق هرمز، أي أن حوالي ثلث النفط المصدر بالسفن على مستوى العالم ستُوقِفه إيران إن نفذت تهديدها، وهو تهديد قام به الجيش الإيراني من قبل، لكن ليس الرئيس؛ وهذا أحد الأسباب التي دعت راسموسين لأن يُدوِّن تقريره بانقلاب شخص روحاني.
هذه التصريحات التي تُغذِّي الرؤية التصادمية لدى المحافظين خاصة العسكريين منهم جعلتهم يهرعون لتلبية روحاني ودعوته التي أنتجتها الظروف السياسية والاقتصادية القاسية التي باتت مفروضةً عليه في وطنه، قاسم سُليماني ذاته، والذي كان يتبادل السُباب اللفظي مع روحاني أثناء عيد الفطر في أحد الاحتفالات لرفض روحاني رفع ميزانية قوة الحرس والقُدس التابعة لها، تجده في رسالةٍ له مؤيدةٍ ومُدعمةً لروحاني وتحمل احترامًا وتقديرًا غير عاديين، حينما قال: “أُقبِّل يدك لتصريحاتك الحكيمة التي جاءت في وقتها، وأنا رهن خدمتك لتطبيق أي سياسة تخدم الجمهورية الإسلامية”.
الأمر لم يتوقف عند سُليماني فقط، بل تعدى ليشمل شخصًا جديدًا آخر كان يُكِّن عداءً غير طبيعيّ لروحاني، وهو مستشار المرشد للشؤون العسكرية، يحيى رحيم صفوي، والذي صرّح قبل سابق أنه لا بُد من محاكمة روحاني والتخلُص منه صراحةً ودون أية مواربة، وقد نقلت الصُحف والمواقع الإخبارية ووكالات الأنباء تصريحه هذا، إلا أنه عقب اتخاذ روحاني موقفًا متحديًا ضد قوى الغرب والولايات المتحدة الأميركية، قال في أواخر يونيو / حزيران الماضي بأن الإيرانيين معًا، بإمكانهم هزيمة أميركا “في حرب الإرادات”، بل أزاد من الشعر بيتًا عندما قال إن واجب كل إيراني أن يؤيد الحكومة “لنزع الفتيل من مخططات الأعداء”.
كما أشار تقريرًا لوكالة أخبار فارس، وهي وسيلة إعلامية محسوبة ومنحازة للحرس الثوري، كتبت: “نتوقع ألا يعود روحاني إلى سابق خطاباته”، مشيرًا إلى أن مستقبل روحاني السياسي في يد الزعيم الروحي -علي خامنئي- بشكلٍ كبير، حيث أن مصادقته ضرورية لأي رئيس ليبقى في منصبه.
ليس هذا هو السبب فقط ولكنه أبرز الأسباب، بينما يُوجَد سببًا آخرًا وهو حالة الإحباط العامة التي تجتاح البلاد على إثر حالة الشلل والتجمُد والتوقف التي تضرب المجتمع والاقتصاد بشكلٍ غير مُبرَّر من قِبل النظام والتي نقلها إلى المواطنين، فقد ضربت التظاهرات مختلف أنحاء البلاد؛ بسبب ارتفاع الأسعار، والفساد، وإفساد البيئة، من عمال الصلب إلى سائقي الشاحنات إلى موظفي المستشفيات إلى أصحاب المتاجر، في أقدم بازار في العاصمة، كما ينقل راسموسين.
بالإضافة إلى نقصان الحريات السياسية والاجتماعية، ومحاصرتها من قِبل النظام، وليس أدل على ذلك من الأوضاع الحقوقية المُزرية للحريات في البلاد منذ مطلع العام الجاري بالأخص، ابتداءً من حظر تطبيق التليجرام في البلاد عدة أسابيع، مرورًا بحوادث التصفية في السجون، والقمع الدموي المتواصل للتظاهرات والاحتجاجات التي انتشرت في بقاع البلاد، والأفعال النسوية التي قامت بها مجموعة نِسوة من الإيرانيات بخلع حجابهن في الميادين وإبراز وإظهار هذه الصورة على مواقع التواصل، ونهايةً بالفتاة المراهقة، مائدة هوجابري، التي نشرت ڤيديو لنفسها وهي ترقص حتى أُلقِي القبض عليها وكان من تداعيات هذا الأمر قيام نساء إيرانيات بنشر فيديوهات لهن وهن يرقصن في مناطق عامة على مواقع التواصل الاجتماعي، في الأسبوع الماضي.
هذا المشهد أثّر على شعبية روحاني، كما أثر على الصورة التي كان قد شيّدها في عقول الإيرانيين من كونه شخص انفتاحيّ مُصلِح يريد وضعًا أفضل لبلاده، ومن ثمّ فعقب تفكيره في إغلاق المضيق ونِيتّه اتخاذ مفاصلةٍ عسكريةٍ مع الوضع الخانق الذي أصبح محتومًا عليه، تغيرت الأصوات الداعمة له، وقد نقل راسموسين طرفًا من ذلك عندما أورد قولًا لامرأةٍ عاطلةٍ عن العمل، تبلغ من العمر 31 عامًا، من طهران العاصمة، ولم تكشف عن اسمها خوفًا من السلطات: “صوتنا للسيد روحاني لأنه وعد بأن يفتح الباب للعلاقات الدولية، والتهديد بإغلاق مضيق هرمز ليس معقولًا وليس معتدلًا.. لا نريد العزلة مرة أخرى”.
كما يشير الكاتب إلى أن الوضع يزداد تأزُمًا حول روحاني، وقد نقل مَفاَد ذلك من أقوالٍ وتصريحاتٍ وتقييمٍ للوضع القائم حول روحاني نفسه، قد نقل راسموسين عن الخبير في الشأن الإيراني، والأستاذ في جامعة بيرمنجهام، سكوت لوكاس، قوله: “روحاني قدم تنازلًا كبيرًا (بالنسبة للمتشددين).. وهذا كان أشد تصريح له، وقصد فيه (إيصال رسالة لـ) الأمريكيين”.
ونقل عن الباحثة والمُحرِّرة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مركز دراسات يُركِّز على إيران، إيلي غيرانمايا، قولها: “لا يزال الزعيم الروحي يدعم موقف روحاني.. إنه يريد تجنب صراع أكبر داخل المؤسسة السياسية”.
وأثار راسموسين نقطةً لم تكن معروفة على الإطلاق عن شخص روحاني، للتأكيد على السياق الذي فنّده في تقريره من انقلاب شخص روحاني من المحافظ إلى الإصلاحي، وهو أن روحاني كان جزءً من العناصر الراديكالية المتشددة في النظام لفترةٍ طويلة، مشيرًا إلى أنه تسلم خلال ثمانينيات القرن الماضي عدة مناصب كبيرة، بما فيها قائد القوات الجوية، وفي عام 1999 كان روحاني حينها سكرتير مجلس الأمن القومي، حيث أمر الحرس الثوري بقمع مظاهرات الطلاب في طهران، وأمر بتوجيه تهمة “الإفساد في الأرض” لهم، وهي جريمة يعاقب عليها القانون بالقتل.
وقد ختم راسموسين تقريره على “وول ستريت جورنال” بالإشارة إلى قول مواطن يُدعَى حسن من مدينة طهران، والبالغ من العمر 32 عامًا: “بإمكان الناس الذي صوّتوا لروحاني أن يروا النتيجة؛ (فالنظام) يجتمع عند الحاجة من أجل الأمن القومي”.
تقييم
هذا الطرف الذي أنهى به راسموسين تقريره هو مَفاَد الضبط المعياري للحكم على شخص روحاني، النظام الإيراني يجتمع عند الحاجة من أجل الأمن القومي، إذًا فالإصلاحيون والمحافظون ليسوا في حالة تناحُرٍ تام ولا كما يُصدِّرون هم أنفسهم في وسائل الإعلام بل لديهم توقيتات ومحددات يجتمعون عليها ولا يقبلون بالمساومة عليها، بل هم على أتم استعداد للدخول مع أبناء شعبهم في عراكٍ سيستخدمون فيه أي شيء للإبقاء على نظام حكمهم.
ولكن بالنظر إلى روحاني فسنجد أن لدينا رؤيتان، الأولى؛ مقتضاها أن روحاني من الأصل كان مُتشددًا ولكن ظروف الزمان والتغيرات الفكرية لدى البشر هي من تحكمت لاحقًا في تغيير انتماء روحاني من المعسكر المحافظي إلى المعسكر الإصلاحي، والثانية؛ هو أن مقتضى وحُكم الموقف فقط لا غير هو من يتحكم في ويفرض على روحاني التشدُد اللحظي، وأن شخصيته لم تتأثر ولم يتحرك من معسكر إلى معسكر، وهو ما يُبدِّد اعتقاد راسموسين في تقريره.
بحُكم إصلاحية روحاني، وأنه قدِم بحكم لنتسابه لهذا التيار، فروحاني لم يكُن الأول ولن يكن الأخير، من زاوية تحجيم دور الإصلاحيين في مؤسسة الرئاسة والتقزيم من أحلامهم ورافسنجاني وخاتمي ليسا مِنّا ببعيد، فقد خِيضت بينهما وبين مؤسسة الإرشاد والقوى التابعة لها نوازل جمة في قضية استقلالية القرار، وتفعيل المنصب الرئاسي، وقد يكون روحاني هو الرئيس الإصلاحي الأكثر زخمًا مناوشةً بين قرينيه الأسبقين في الرئاسة.
ولكن حتى الآن فروحاني لم تتبدى عليه علامات تشبُعه أو إيمانه بفكر المحافظين لا سيما أن نصائحه في الآونة الأخيرة للمرشد وأذرعه في البلاد بضرورة مناقشة المتظاهرين والاهتمام بقضاياهم وعدم المساس بهم أو قمع احتجاجاتهم كانت دليل واضح على فكرهِ المُتزِن لئلا تكن التبعات على النظام كله شديدة العنف.
وحتى هذه اللحظة فسنُزيح رؤية راسموسين قليلًا إلى الوراء مع الاعتقاد بقيامها وأنها لن تنتفي، والتعويل على الرؤية الثانية والتي نعتقد فيها بأن الموقف هو من جعل من روحاني متشددًا ويتخذ قرارات حاسمة بالطبع ستجني عليه كثير من النقد والمثالب لاسيما من أنصاره ومؤيديه، ولكن نُحيِل هذا إلى رغبته في تأليب الوضع الدولي على أميركا وإرهاب أوروبا للمحافظة على الاتفاق؛ الذي يعني انهياره انهيار روحاني ذاته.
المصدر