في ظل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، ثم تحزيم الجمهورية بإطاراتٍ مُقيِّدة للحركة الاقتصادية الخاصة بها المُمثَّلة في عقوباتٍ هي الأعنف من قِبل الولايات المتحدة في تاريخ تعاملها مع إيران، ثم أُلحِقت هذه الإجراءات بضربةٍ أشد إثخانًا عندما أصدرت أميركا تعميمًا بعيد المدى سيضع أوزاره في تشرين الثاني / نوڤمبر المقبل لمنع المؤسسات والدول بإيقاف تعاملها النفطي مع إيران، وإلا فسيف العقوبات مُسلَّط على رقاب الجميع ولن يرحم مؤسسةً كانت أو دولة.
هذه الحالة شديدة التعقيد أبرز ما تضع آثارها الجانبية وتداعياتها فهي تضعها في إيران، التي من الواضح أنها ستُخرِج كل ما في جُعبتها من أدواتٍ وآليات لتهدئة الوضع في الداخل لديها ولن تُبقِي بأي حال ما يحول دون إخراج كل ما في هذه الجُعبة.
خطاب روحاني
في الرابع عشر من يوليو / تموز الماضي، ألقى رئيس الجمهورية، حسن روحاني، خطابًا تم بثه عبر التليفزيون الإيراني، مفاده أن إيران عقدت العزم على إحباط مؤمرات الولايات ضد بلاده، كما زعم روحاني.
روحاني كان يرغب بشدة في تحقيق حالة من الاستقرار والثبات في السوق الإيراني الذي يموج ويضطرب بشدة، وفي محاولةٍ لإدخال السكينة في نفوس المواطنين الذين انتابهم الروع منذ التصدع شديد التأثير الذي أصاب الاتفاق النووي بانسحاب الولايات المتحدة منه؛ وهذا ما ظهر عندما قال: “تم توفير العملة الصعبة اللازمة للسلع الأساسية والضرورية للمواطنين”.
كما أضاف قائلًا: “الطريق الذي اختارته إيران هو الثبات والصمود، ولن تحدث أي مشكلة للبلاد في مجالات الطاقة، والنقل، والسلع الأساسية، والإنتاج ولقد انتصرنا دومًا حينما كان الشعب والحكومة إلى جانب بعضهما بعضًا”.
استجداءٌ آخر من روحاني للرمق الأخير لدى الإيرانيين للحيلولة دون وقوع ما يخشاه روحاني، والنظام الإيراني برُمتهِ من انفجارٍ شعبي وشيك.
وقد نقل روحاني الإيرانيين من حالة الدفاع النفسي الذاتي إلى إكسابهم حالة من اليقين الداخلي، بعدما صرّح قائلًا: “ليس لدينا أي شك بأن أميركا لا يمكنها الاستمرار في سياساتها التي تنتهجها تجاه إيران، والمنطقة، والعالم الإسلامي، والقوى الكبرى في العالم وحتى حلفائها”.
وتابع: “أن أميركا اليوم معزولة أكثر من الجميع في قضية فرض الحظر، فحكامها يتصرفون بتهور وبصورة غير قانونية ليس مع الشعب الإيراني فقط بل تجاه الشعوب الأخرى وحتى مع حلفائهم”.
خطاب روحاني كان مناورة عابرة لحقن الصخب والاضطراب في الشارع الإيراني، والسوق أيضًا بعد أن تتابعت الشركات الكبرى العملاقة لاسيما العاملة في مجال النفط في الخروج من إيران، وإيقاف كافة المشروعات العملاقة التي كان من المُزمَع الشروع فيها في السنين المُقبِلة.
الطلب النقدي من ألمانيا
في التاسع من يوليو / تموز الماضي، طلبت السُلطات الإيرانية بصُورةٍ رسمية من وزارة المالية الألمانية، سحب مبالغ نقدية كبيرة من حساباتٍ مصرفية في ألمانيا، وهذا كما صرّحت متحدثة باسم وزارة المالية الألمانية.
كان المبلغ المطلوب، كما أشارت إليه صحيفة بيلد هو 300 مليون يورو؛ أي قُرابة 353 مليون دولار ، وقد ردت ألمانيا بأن الطلب محل الفحص.
يُشير هذا الطلب إلى ما أكدته صحيفة بيلد من أن إيران تسعى لسحب الأموال من “البنك الأوروبي الإيراني”؛ خشية أن تواجه نقصًا في السيولة حين تفرض الولايات المتحدة عقوباتٍ مستقبلية على قطاعها المالي. وقد أبلغت إيران هيئة الرقابة المالية الألمانية أنها تحتاج الأموال “لتُوفِّرها للمواطنين الإيرانيين الذي يحتاجون للسيولة عند السفر إلى الخارج في ضوء عجزهم عن الحصول على بطاقات ائتمان معتمدة”.
ومن هُنا تُعوِّل إيران على الجانب الأوروبي الذي يُصِّر على الإبقاء على الاتفاق النووي مع إيران -بصُورته مع إضفاء بعض التعديلات-، والذي يدخل مع الولايات المتحدة الأميركية في صراعٍ شديد حوله.
الطلب الإيراني أثار زوبعةً واضحة في أوروبا وخاصةً ألمانيا، عندما علّق سفير الولايات المتحدة الأمريكية في برلين، ريتشارد غرينيل، على هذا الطلب الإيران من ألمانيا.
وقد طلب السفير بصُورةٍ واضحة من برلين منع إيران من سحب هذه المبالغ النقدية الكبيرة لمواجهة تداعيات عقوبات أمريكية جديدة عقب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي المبرم في 2015.
وقد قال غرينيل، لصحيفة “بيلد” الألمانية: “إن الحكومة الأمريكية قلقة للغاية من خطط طهران تحويل مئات الملايين من اليورو لإيران نقدًا”.
وصرّح: “نطلب من الحكومة الألمانية على أعلى مستوى التدخل ووقف الخطة”.
لم يكن الأمر ليتوقف عند هذا الحد، إذ انتقد يوهان فادفول، نائب زعيم تكتل المحافظين؛ الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل في البرلمان، تصريحات السفير الأميركي غرينيل، وقال إن التحويل لا يجب وقفه استنادًا إلى أُسسٍ سياسية.
وقد علّق قائلًا: “إن تصريحات السفير الأمريكي هي من جديد مقلقة، ومن الصعب أن تكون متماشية مع دوره الدبلوماسي”.
لاسيما أن السُلطات الألمانية تدرس الطلب الإيراني وفقًا لتوجيهاتٍ إرشاديةٍ موصوفة بوضوح تهدف إلى تجنب المخاطر المرتبطة بغسل الأموال أو احتمال تمويل جماعات متطرفة.
وقد قال متحدث باسم الخارجية الألمانية: “بطبيعة الحال، واضح أن جزءً من مراجعة الحكومة الألمانية سيتطرق للبحث في ما إذا كان هناك خرق لنظام العقوبات”.
اللُعبة في يد إيران مؤقتًا
الموقف السابق يُوضِح بشكلٍ كبير مدى التدخل الأميركي في القرار الأوروبي الخارجي، وهذا هو الوتر الذي تلعب عليه إيران في مناورتها؛ فالتشبُث الأوروبي بالاتفاق سيُنتِج لا محالة صدامًا متفجرًا بالولايات المتحدة الأميركية، وهو الشيء الذي تحتاجه إيران لإتمام خُطتها في المحافظة على الاتفاق النووي، والحفاظ على وُفوراتها المالية القابعة في البنوك الأوروبية وضمان عودتها مرة أُخرى للجمهورية، التي تتخبط من إثر الصفعات الاقتصادية التي تنهال على وجهها.
لا شك أن الوضع الاقتصادي في إيران يُصبح بمرور الأيام أكثر إزراءً وسوءً يومًا بعد آخر، وآخر تلك الصفعات هو انسحاب شركة “CMACGM” الفرنسية وهي من كُبريات شركات الشحن حول العالم من السوق الإيراني، تخوفًا من الوقوع تحت طائلة العقوبات الأميركية، وقبلها بأسابيع كانت شركة “TOTAL” الفرنسية النفطية العملاقة قد حزمت أمتعتها للخروج من إيران لنفس السبب.
ومن ثمَّ فلم يتبقى لإيران سوى اللُجوء إلى السياسة التي تتمرس فيها جيدًا وهي الخطابات الشعبية العاطفية المُلهِبة الديماجوجية، والتي من الواضح أنها لم تُصبِح تُؤتِي أُكُلها مثل السابق، فستلجأ إلى وترٍ آخر وهو الودائع المالية خاصتها والتي قد رُفِعت عنها طائلة العقوبات بحُكم الاتفاق النووية 2015، وهي باقيةٌ هُناك في بنوك أوروبا التي تتمسك بالاتفاق فهل تُفرِج عنها أوروبا أم تتمثل لأميركا كالعادة؟، وهل تنجح خُطة إيران الجديدة في توسيع الهُوة بين أوروبا وأميركا لإنقاذ اقتصادها المُتردِي؟.
فهي أسئلةٌ لا شكَ ستُجيب عنها الأيام المُقبلة، وذلك بعدما صارت العلاقلات الدبلوماسية بين الجانبين الأوروبي والأميركي متوترة للغاية وتميل للاشتباك أو التجمُد بسبب الهجوم الأميركي على الشراكة مع أوروبا حتى ضم ترامب الاتحاد الأوروبي في حديثه لشبكة CBS إلى قائمة أعداء أميركا جنبًا إلى جنب مع الصين وروسيا، وأيضًا، مع الرفض الأوروبي الذي أصبح بارزًا للتوجيهات الأمريكية والإذعان لها والانصياع لإرشاداتها بعدما أصبحت أكثر فجاجةً وحديةً وتضع صورة أوروبا في العالم بشكلٍ مُهيِنٍ وتابع لسيده في الأراضي الأميركية.
المصادر