كثيرًا ما استخدم المخرج الإيراني عباس كياروستامي مشاهد السيارة داخل أفلامه، وهي سمة صار يعرف بها بعد ذلك، وفي فيلم “عشرة” فإننا نطالع مشاهده بأكمله فقط داخل السيارة، فهنا عالم آخر يقدمه لنا الفيلم، مداه داخل السيارة ولكنه يحمل الكثير من العالم الكبير داخل هذا الحيز الصغير، في خلال عشرة مشاهد اختارها “كيارستامي” بعناية.
فرصة
يقول كيارستامي عن فيلم “عشرة” منحنني الفيلم فرصة استعمال كاميرا ثابتة في مكان متنقل كالسيارة، هي مكاني المفضل، مقعدان مريحان، وحوار في غاية الحميمة بين شخصين، يجلسان بجوار بعضهما وليس قبالة بعضهما، دون أن يضطر أحدهما إلى النظر في عينيّ الآخر. إنهما في هذه الحالة يتواصلان على نحو أفضل. للصمت في السيارة منطق مختلف. بوسعك أن تنظر إلى الخارج، لكن هذا لا يعني أن الحوار انتهى”.
قصة الفيلم
تدور أحداث فيلم “عشرة” الذي تم إنتاجه عام 2002، داخل السيارة، وذلك في إطار عشرة محادثات، كل واحدة هي جزء وحده داخل الفيلم، يقسمه كيارستامي تنازليًا من عشرة حتى يصل إلى واحد، وذلك في إطار جولة بالسيارة التي تقوم بها السائقة بطلة الفيلم داخل شوارع طهران، وتظهر لنا كل المناقشات التي تجريها شكلة حياتها الشخصية، كما ينتقل الفيلم لنقطة أعم وأشمل هي وضع المرأة في المجتمع الإيراني.
تميز الفيلم بشكل خاص بالمزاوجة بين الروائي والوثائقي، حيث استخدم كيارستمي ممثلين غير محترفين ليصبحوا أبطال فيلمه، كما قام بالتصوير في الشارع بعيدًا عن الأستوديوهات، إلى جانب أسلوب الفيلم الوثائقي في تصوير فيلمه الروائي، واعتمدت تقنية التوصير على قد تصوير المشاهد من خلال وضع كاميرتين رقميتين على جانبي السيارة فقط دون استخدام غيرها.
أحداث
رغم أن الأحداث تدور داخل عشرة لقطات متفرقة داخل التاكسي إلا أنها تأخذ منحنى تصاعدي عبر الفيلم، رغم بعض الملل الذي يكتنف جوانب الفيلم، إلا أن هناك أيضًا دراما تخلق نفسها من علاقات الأشخاص داخل التاكسي، أهمها على الإطلاق هي علاقة الطفل بأمه سائقة التاكسي الذي تدور كل أحداث الفيلم داخله، تبدو العلاقة في البداية حادة للغاية فهو يريد ترك منزل والدته المتزوجة بعد طلاقها والعيش مع أبيه الحقيقي، وهو ما كانت ترفضه أمه بدورها، لتبدأ الأحداث في التغير على مدار الفيلم، وذلك من خلال المناقشات حول جدوى المكوث معها من عدمه.
كثيرًا ما يأخذ الابن صف والده في ذلك النقاش، لذا فرغم عدم وجود وجهة نظر ذكورية فإن الطفل صاحب السبعة أعوام يتبناها طيلة الفيلم، وهي وجهة النظر الذكورية الوحيدة من فيلم كل بطلاته سيدات.
تمر الأحداث تصاعديًا أيضًا من خلال علاقتها بالراكبات، فنرى كيف يسلم المشهد إلى المشهد الذي يليه، هناك حديث عن العلاقة بالله يبدأ مع السيدة العجوز، ويمر مع فتاة الليل بعض الشىء، وصولًا إلى الفتاة العروس، التي كانت تأمل في زفاف قريب مع الشخص الذي تحبه، الفتاة ظهرت في مشهدين حمل كل منهما تطورًا ملحوظًا في الأحداث، كأنها تتصاعد في الخارج، ويأتي الشخوص هنا لحكاية هذا التصاعد، لذا لن نرى هنا أي مشاهد درامية أو ملحمية، فكل الدراما قد حدثت بالخارج، ولكن رغمًا عن هذا فالأشخاص يحملون صراعاتهم حتى لو كانت داخل عربة صغيرة.
المرأة الإيرانية
عنى هذا الفيلم بالمرأة الإيرانية بشكل خاص، بدءًا من السائقة بطلة الفيلم والتي عانت من تجربة طلاق ثم زواج آخر، وكذلك السيدة العجوز التي تأتي متضرعة إلى الله داخل المسجد لفك كربها وتوصلها البطلة، وفتاة الليل التي تحكي بعض من تاريخها القديم قبل احتراف هذه المهنة، إضافة إلى بعض الحديث عن شعورها إزاء هذه المهنة، ثم الفتاة الحائرة التي تشارك السائقة حيرتها عن الله، والتي تحب شخص من المنتظر زواجهما لكنه يبدو أنه لا يبادلها الشعور ذاته.
الضوء هنا يسلط على ما تعانيه المرأة بشكل عام وفي المجتمع، سواء في حق الطلاق، فالبطلة مثلًا قررت اتهام زوجها بتعاطي المخدرات من أجل تطليقها، وعندما يتهمها ابنها بذلك فتجيب بأن ذلك كان الحل الوحيد. كثيرًا ما كان الرجل هو محط أزمة المرأة داخل الفيلم هنا، الرجل الذي كان سببًا في احتراف فتاة دعارة، أو في حزن الفتاة الأخرى حين هجرها، وغيرها من المشاكل، حتى هذا الطفل الصغير يبدو أزمة أيضًا بالنسبة إلى أمه، رغم ذلك لا أحد هنا يلقي أصابعه للوم ناحية شىء معين بشكل واضح، الطفل أيضًا يتهم أمه بالعديد من الاتهامات، والتي تحاول أن تنفي بعضها، وتسكت عن أخرى، أو تعيد الدفة لاتهام للأب فيما بعد، ولكن الأهم هنا هو تبيان الوضع الذي وصلت إليه المرأة الإيرانية، والذي يبدو جليًا بشكل لا تخطئه عين عندما نشاهد تلك المشاهد الحوارية المتعاقبة.
غير محترفين
رغم أن شخصيات الفيلم في الغالب هي شخصيات غير محترفة للتمثيل، إلا أن الأدوار كان بها جانبًا كبيرًا من الإتقان، خاصة أن كيارستامي يعتمد على عدم التدخل بشكل فج مما يقلل من طبيعية الممثل، لا يوجد فريق عمل يرى الممثل أو مخرج يلوم الممثل وينظر له بانتظار خطأ ما. بل كل ما أمام الممثل هو كاميرا. كاميرا لا يبدو أنه يشعر بها بالكاد، فيبدو وكأنه يتعامل بالفعل في ذلك الموقف، وليس مجرد مشهد تمثيلي.
رغم قرب الكاميرا للأبطال إلا أنه بالكاد ما نظر إليها أي شخص، لعله الطفل ما ينظر باستحياء وبسرعة إلى الكاميرا، ولكنه ما يلبث ويعود مرة أخرى للتعامل، فلا نشعر مع نظراته بشىء غريب أو غير طبيعي.
قلة
لم يستخدم الفيلم سوى كادرين في الغالب صنع بهما عشرة مشاهد، ورغم العدد القليل الذي نتحدث عنه من الكودار والمشاهد، إلا أن كيارستامي استطاع صناعة فيلم جيد، بميزانية قليلة للغاية.
لم تظهر كثير من مشاهد المدينة التي يجرى فيها الأحداث، وإن كنا نعلم أنها طهران، إذ انصب اهتمام المخرج الأول على ما يخلفه العالم وليس العالم نفسه، إلا أننا نشاهد بالطبع بعضًا من لوحات المحال، أو الشوارع المحيطة، على عكس عدد آخر من الأفلام كان المخرج الإيراني مهتمًا فيه بالعالم المحيط، وبصنع لوحات يراها المشاهد أثناء تنقل السيارة داخل الفيلم، وربما كان هذا مقصودًا لصنع حالة التوتر تلك، حالة الضيق من حجم المكان، ذلك الذي يخنق فيه كل هذه الشخصيات، مما يسلل إلينا بعضًا من إحساسهم كما لو كانوا حقيقيين.