يشهد الداخل الإيراني في الآونة الأخيرة تصاعُدًا حادًا في وتيرة الأزمات، والضجر الذي ينتاب النظام وشعبه على حدٍّ سواء، وأصبحت الصورة في إيران تنالُ اهتمامًا وتسليطًا إعلاميًا واسعين، وتكثيفًا على القضايا الداخلية لا سيما بعدما اشتعلت وتيرة التظاهُرات مرةً أُخرى في أنحاءٍ متفرقة من البلاد، ولكن على شكلٍ مُصغَّرمن احتجاجات يناير / كانون الثاني مطلع هذا العام.
وقرَّرنا أن نُحقِّق تطوافة سريعة مقرونةً بتحليل عن طبيعة الوضع في إيران، وما المآلات التي ستصل إليها إيران لاسيما نظامها، والذي يواجِه ضغطًا مُكثَّفًا من قِبل شعبه للتحرُك بسرعةٍ قُبيل أن يُقدِم أوراق سقوطه.
تُجار البازار: غضبةٌ اقتصادية اجتماعية
نجمة بوزرغيمر، الصحفية الإيرانية المخضرمة في جريدة فاينانشيال تايمز، في تقريرها عن أزمة تجار البازار، أوردت أن مئات التجار في الشوارع المقببة في بازار طهران الكبير وصّدوا متاجرهم الأسبوع الماضي؛ احتجاجًا على العملة الآخذة في التراجع.
تُضيف نجمة أن ضمن أحداث هذا الأسبوع، فإن شاب قال لعدد من أصحاب المحال في السوق: “أغلقوا! أغلقوا المحال! الرجاء التعاون معنا”. لقد كان هذا اتجاهًا ثوريًا لشابٍ أراد التغيير.
بينما على الضفة الأُخرى، فقد ذكر أحد تجار الذهب بالجملة قائلًا: “لقد أُكرِهْنا على إغلاق محالنا. أرسلت مراكز السلطة المعادية لروحاني عملاءها إلى السوق. يبدو أن هنالك خطة لجعل روحاني ضحية لهذه الأزمة الاقتصادية الحالية”. وهذه كانت رؤية مُناصِري وحلفاء حسن روحاني، الذين يرون أن تراجع العُملة محكوم بدعمٍ من قِبل المتشددين الساعين إلى إرغام روحاني على التخلي عن الحكم.
نجمة أثارت نقطةً إضافية، ونبشت الماضي عن الدور الذي مثّله تجار البازار، فقد لعب هؤلاء دورًا محوريًّا في الثورة الإسلامية، عام 1979، عندما ضم التجار صفوفهم إلى رجال الدين من أجل الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي. ولكن كما العادة فقد أفقد الخُميني كل من عاونوه القُوة التي كانوا يتمتعون بها، فلم يعد التجار يتمتعون بهذا النوع من السلطة، لكن تشير نجمة أن الدور الذي يلعبه تجار البازار ظل رمزيًا، فالمشهد الخاص بهم في السوق كان وظل يعني كثيرًا بالنسبة للإيرانيين.
نجمة جذبت التقرير إلى زاويةٍ بعيدة، ورفغت عنه ردائه الاقتصادي، عندما سردت أقوال خاصة بالمحللين ذكروا فيها إن هذه التطورات تأتي في قالب صراع يزداد حِدةً على السلطة، بين القوى المؤيدة للإصلاح -المتحالفة مع روحاني- وعلى رأسها الإصلاحيين وأحزابهم، ونظرائهم المحافظين الراديكاليين القابعين في قوة الحرس الثوري، والسلطة القضائية، والإذاعة والتليفزيون، والمؤسسات الدينية، ووصل تحليل هؤلاء إلى تناول شائعات عن وجود تدخل عسكري من أجل السيطرة على الحكومة الإصلاحية.
كما أظهرت أيضًا أن الصورة الخاصة بشكل إيران حيث كبار القادة مُوحّدين ومُجتمعين وقبضةً واحدة ضد الولايات المتحدة، هي صورةٌ مُلتبِسة وغير حقيقية، إذ تدور اختلافات أساسية طاحنة حول مستقبل النظام الديني الثيوقراطي وحول أية مفاوضات مستقبلية مع “العدو اللدود” الولايات المتحدة.
أضافت نجمة في تقريرها أن دونالد ترامب طالب إيران بأن تُوقِف تدخلها في الشرق الأوسط، وأن تتخلى عن برنامج الصواريخ البالستية الخاص بها. وفي الوقت نفسه لم يُعلِن ترامب غضبته الكاملة على إيران، آملًا في عودتها إلى معسكر المجتمع الدولي الذي ترتضيه الولايات المتحدة. فقد أشار إلى أن إجراء المحادثات مع طهران قائمة طالما توقفت عن تدخلها في شؤون المنطقة.
تتابع نجمة، أنه من المتوقع أن يتدهور وضع الاقتصاد الإيراني أكثر من قبل. إذ أن الولايات المتحدة ستعلن في أغسطس / آب المقبل، فرض مزيد من القيود على قدرة إيران على شراء الدولار الأميركي، إضافةً إلى أي تجارة عالمية مع ما لدى إيران من ذهبٍ وفحم وصلب وسيارات وعملة وسندات.
لن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ستفرض واشنطن عقوبات على صادرات إيران من النفط والطاقة، وعلى الشحن البحري والموانئ، ومعاملات البنك المركزي. قصفٌ ثقيل على كل شيء مالي في الجمهورية.
المعضلة الكبرى تظهر في أن الحرب التجارية -كما يصفها المسؤولون الإيرانيون- هزت عوام الناس ومجتمع الأعمال على حدٍّ سواء مع توقعاتٍ متزايدة بمزيدٍ من المَضار والآلام الاقتصادية الحادة على الجميع خلال الأشهر المُقبِلة، عندما تصبح العقوبات الجديدة نافذة المفعول.
وعندما ننظر سنكتشف حجم العبثية والعشوائية التي ترتع في سوق المال الإيراني، والتي تسبب فيها النظام الإيراني بسياساته غير المدروسة أو المُعلَنة سلفًا.
تُورِد نجمة جانب من هذه الفوضى، فقد انخفضت العملة الإيرانية، الريال، نحو 50 في المائة مقابل الدولار في السوق المفتوحة هذا العام، فسنجد أن الدولار الواحد أصبح يساوي ما هو مقداره من 50 ألف- 80 ألف ريال،في فترةٍ لا تعدو شهرين من أبريل / نيسان الماضي إلى يونيو / حزيران الحالي.
وأيضًا التدابير الطارئة التي اتخذتها الحكومة؛ كتخصيص عملة صعبة لمستوردي السلع الأساسية، وفرض حظر على مئات من السلع المستوردة، بما فيها السيارات، ومن ثمّ فقد أدت هذه السياسة إلى أدت إلى رفع أسعار كثير من المنتجات، وقد كان أبرز مثال على هذا الأمر هو مراكز التسوق؛ التي كانت تعتمد على السلع الاستهلاكية المستوردة، بما فيها الملابس والأحذية، والتي انتابتها حالةً من الذهول على إثر هذا الحظر على الواردات بين عشية وضحاها ودون إعلان سابق الأسبوع الماضي.
عاملٌ ثالث أضافه التقرير،وهو أن الكثير من الناس يسحبون مدخراتهم ويشترون الذهب والعملة الصعبة والعقارات والسيارات في محاولةٍ لحماية أصولهم.
استندت نجمة في تقريرها إلى الكثير من المصادر الحية لإثبات الحالة محل التقرير، فقد أوردت نصًّا لأحد أصحاب المحال، والذي كان يبيع آلات صنع القهوة الفرنسية في البازار قوله : “يشتري الناس السلع الأساسية فقط هذه الأيام، أو يحولون مدخراتهم إلى سبائك ذهبية. ليس هناك سبب يجعلنا نفتح متاجرنا في وقتٍ لا نستطيع فيه شراء منتجات جديدة باهظة الثمن بسبب أسعار الدولار وليس لدينا زبائن لشرائها”.
هذه الحالة التي فجّرها تجار البازار تشِّي بوضعٍ أكثر سوءً يحياه النظام في إيران، ولا يستطيع وفق المعطيات دفعها إلا بالسلاح المتواتِر المعروف لديها ألا وهو القمع.
*****
فقد انبرت قُوة الحرس الثوري الإيراني لقمع الاحتجاجات عبر فضّها واعتقال العديد من التُجار الغاضبين، وقد انطلقت من جنوب العاصمة طهران، بعدما صعّد التجار من غضبتهم عبر تشكيل ضغطٍ مزدوج على النظام بإغلاق الحوانيت، والتظاهر، لإحراج النظام بصُورةٍ أكبر ولإجباره على التدخُل الفوري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد المُتردِي.
ومن ثمَّ يظل السؤال الأبرز كيف حوّل النظام الإيراني هذه الكتلة خلال 40 عامًا فقط من كُتلةٍ فاعلةٍ ومؤثرةٍ في إنجاح الثورة الإيرانية عام 1979، وإسقاط الشاه بهلوي، إلى كُتلةٍ غاضبة على الثورة نظامها تتمنى إسقاطه اليوم قبل أمس؟، سياسات النظام في إيران هي من أتت أُكلها وسبَّبت هذا التحول الكبير لدى تُجار البازار.
ولكن لا يُؤخَذ في الحُسبان لدى تجار البازار أنفسهم أنهم لم يعودوا مثل ذي قبل، وأنهم وآبائهم الذين حملوا الثورة على أكتافهم لم يُصبحوا أهل قوةٍ وتأثير مثلما كانوا سلفًا، بعدما جُرِّدوا من كافة آلياتهم وأدواتهم التي استخدموها في إسقاط نظام الشاه.
لكن يظل تجار البازار فاعل غير طبيعي، وتكمُن بداخلهم قوةٍ مؤثرة قد تكون حجرًا على طريق التغيير مهما استبد بهم الضغف أو تغيروا عن شربهم وطباعهم الأولى، وقد يحاولوا الكرّة مرةً أُخرى ويكتسبوا القدرات اللازمة لتخقيق التعديل في المسار أو التغيير والإحلال بصُورةٍ تامة.
#نستكمل الجزء القادم