انتهى التقرير ذا أتلانتك إلى برقية چورچ كينان، وچورچ كينان هو الموظف في سفارة واشنطن بموسكو خلال 1935-1936، ثم أصبح وزيرًا مفوضًا في السفارة نفسها خلال 1944-1946، ثم سفير الولايات المتحدة في العاصمة السوڤيتية، عام 1952، ولكنه مكث خمسة أشهر فقط وحزم أمتعته وغادر الاتحاد، بعدما اعتبرته السلطات الستالينية شخصًا غير مرغوب فيه. وعاد أدراجه إلى بلاده.
وبرقيته تلك، هي «البرقية الطويلة»، وقصتها أنه عندما كان كينان في فبراير / شباط 1946، وأثناء عمله كوزيرٍ مفوَّض، أرسل بـبرقيةٍ طويلة إلى وزارة الخارجية الأميركية، في واشنطن، وقد عُدَّت أهم برقية في تاريخ الدبلوماسية الأميركية، وأعلى تجليات الفكر الأميركي.
أوجدت البرقية شُهرةً ارتبطت باسم الموظف المغمور، چورچ كينان، إذ كانت الرسالة تحمل تفسيرًا لصانعي القرار الأميركيين المتخبطين من فهم شخص جوزيف ستالين ونظامه،وقد نالت البرقية اهتمامًا واسع في أوساط المعنيين بالشؤون الاستراتيچية والچيوبوليتيكية.
حتى أن كينان قام بنشرها بعنوان «مصادر السلوك السوڤييتي»، في مجلة «فورين أفيرز»، مجلة مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، في يوليو / تموز 1947، بعدما أضاف عليها وعدّل فيها، ووقّعها بحرف «x» بسبب وظيفته الرسمية. حتى أن البعض سمّاه “كلاوزفيتز القرن العشرين”؛ تيمُنًا بالچنرال والمنظّر البروسي.
على كُلٍ، فقد استعان تقرير «ذا أتلانتك” بجُزءٍ من هذه البرقية، والتي حذر فيها كينان، من أن السياسات الأمريكية وحدها قد تعجل بالتغيير السياسي في الاتحاد السوفيتي، لكنها لن تقوم به».
كتب كينان في برقيته قائلًا: «سيكون من المبالغة القول إن السلوك الأميركي وحده منفردًا يمكن أن يؤدي إلى تغيير جذري في الحركة الشيوعية، أو السقوط المبكر للقوة السوڤيتية في روسيا. لكن الولايات المتحدة لديها القدرة على زيادة الضغوط التي ستضطر السياسة السوڤيتية إلى التعامل معها؛ فلا يمكن لأية حركة روحية حماسية أن تواجه الإحباط إلى أجلٍ غير مُسمَّى دون أن تعدل نفسها في النهاية بطريقة أو بأخرى لمنطق الأمر الواقع».
كان كينان يُوجِّه القائمين على السياسة في الولايات المتحدة لفهم عقل ستالين وكيفية التعامل معه بهدف الانتصار عليه، بعدما كان رفيقًا مُخالِفًا أثناء قترة الحرب العالمية الثانية، وكان إشارةً إلى أن فعل الولايات المتحدة بالدخول في مواجهةٍ مباشرة مع السوڤيت لن يُخلِّف إلا قُوة ستُلقِي بتبعاتها عليهم وستزيدهم تكتُلًا وتأتي على خِلاف مقصد أميركا من إسقاط ستالين واتحاده.
ولكن لفت انتباههم إلى إمكانية زيادة الضغوط والأعباء وإثارة الغبار على طول الطريق الذي تسير عليه عربة السُوڤيت ومن ثمَّ ستقع الحادثة في نهاية المآل، دون أن تكون أميركا السبب فيها، إذ كان كينان يؤمن أن الاتحاد السوڤيتي قائم على سردية ماركس، أي إنهم حركة روحية أيديولوچية نابعةً من تجلياتٍ حماسية إيمانية بحتة، وقد دفع الرُوس الأوائل الذين مكّنوا للثورة البلشفية عام 1917، نظير هذا التمكين دمائهم وأرواحهم، ومن ثمَّ فلا بُد من التعامل مع هذه الحركات بطريقةٍ خاصة، وفي الفترات التي تتسيد هذه الحركات أُناسٍ أمثال ستالين، ستعُم حالة من الإحباط داخل أوساط هذه الحركات، وللشعوب المحكومة بأيديولوچية هذه الحركات، هُنا فقط لا بُد من الدخول بقوة واللعب على هذا الوتر من أجل توجيه الضربة القاصمة.
كل هذا الأمر تأكيد لنظرية چان بول سارتر، بأن الحضارات حينما تصل إلى قُمة مجدها أو قوتها فإن هذا يعني أنها تحمل في طياتها بذور انهيارها، ولم يتفهم أحد هذا التقرير كما تشير “ذا أتلانتك” سوى الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريجان، وقد آتي التقرير أُكُله عقب خمسة عقود في بداية التسعينيات، عندما عمل ريجان برفقة إدارته على إدارة السقوط ذاته، وقد تم ذلك عبر الدفاع عن المعارضين السوفييت، ومقاومة النفوذ السوڤيتي، فأجَّج ذلك وساعد على انقسامات النخبة والاضطرابات الشعبية، وتصدعت الإمبراطورية ثم تهاوت وانهارت انهيارًا سِلميًّا، مع الأخذ أن الاتحاد السوڤيتي كان يملك قوة نووية طاغية.
ينتهي تقرير أتتلاتنك بإمكانيةٍ نظرية لتحقيق برقية كينان، وأفعال ريجان مع السوڤييت، عبر عملية إسقاط على الاستراتيچية الأميركية صوب إيران.
فما دام النظام الإيراني يحمل في طياته بذور انهياره، فسيتطلب الأمر من أميركا قدرًا كبيرًا من الصبر والمرونة، واستعدادًا ليس فقط لدعم المجتمع المدني الإيراني بذكاء، ومكافحة التأثير الإيراني الخبيث كما وصف التقرير، ولكن أيضًا إشراك النظام الإيراني لزيادة الانقسامات بين أولئك الذين يريدون أن تكون إيران دولة، وأولئك الذين يريدونها أن تكون قضية.
أي صناعة تناقضات داخلية واسعة تتمثل في تدعيم الاضطرابات الشعبية أي ضغطًا من القاعدة، وانقسامات في القمة حيث الانقسامات النُخبوية.
ومن ثمَّ ستظل نصيحة كينان قائمة بأن: «مثل هذه السياسة لا علاقة لها بالتمثيليات المسرحية الظاهرة القائمة على التهديدات، أو التكتلات، أو استعراض القوة غير الضروري».
في مطلع يناير / كانون الثاني، نشرت مجلة ذا أتلانتك أيضًا تقريرًا عن الدعم الأميركي لتظاهرات الجمهورية، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن ترامب يجهل حقيقة الوضع في إيران، ولا يعرف قواعد اللعبة هُناك، وهو أمرٌ وصفه التقرير بأنه خطير للغاية، نظرًا للدور الذي يلعبه في تحديد كيف ستسير الأمور مستقبلًا؟. لدرجةٍ جعلت المجلة تُفضِي سبب تقويض التظاهرات في إيران إلى ترامب الذي ساهم بدعمه ورد فعله غير المحسوب إلي هدم كل المكاسب التي حققتها الجماهير في الأيام الأولى من التظاهرات مهما بلغت ضآلتها.
إذن في نهاية المآل، تُصبِح دعوة التغيير والثورة في إيران مُهدَّدة بصورة مستمرة أن تتلاشى وألا تصل لمساعيها، وهذا بسبب الدعم الأميركي الخاطئ وغير الصائب، والذي يأتي في فتراتٍ تحولية يهدم كل ما أقامه الثوار في إيران، ولو ترك حكام الولايات المتحدة الأميركية الوضع في إيران يسير بوتيرته الطبيعية فسينهار المعبد على رأس نظام الثورة وسيتبدد حكمهم إلى غير رجعة.
ولكن عبر ما سرده تقريرا ذا أتلانتك، فإنه على الولايات المتحدة الأميركية أن تكون واقعية في أهداف سياستها الخارجية، وأيضًا بشأن سياستها الداخلية، لأن لن تنتصر حركة تغيير يُدعمها رئيس فضائح لا تتوقف عن الخروج إلى النور كل يوم، كما أنه «مُحتقَر دوليًا»، وأصبح حلفاؤه ينفضون من حوله، كما أنه لا يُولِي اهتمامًا كافيًا لشؤون بلاده الداخلية وهو الأمر الذي يحدّ بشكلٍ كبير من قدرة أميركا على الترويج لحكوماتٍ أفضل في الخارج عامةً أو نُصتها لدعاوى التغيير النابعة من حناجر الشعوب، و التغيير والثورة خاصةً في إيران.
ومن ثمَّ وعلى طول حلقاتنا السبع أكّدنا فعليًّا أن ترامب أحيى النظام الإيراني، وأقامه من نعشه بفعل دعمه غير الصائب، في الأوقات الخاطئة، وبالطريقة الخاطئة لمُريِدي التحول في الجمهورية التي يسودها الاستبداد، وستلقى حتفها إن توافرت البدائل والفعالية لدى الثوار.
المصادر