ينتقل التقرير إلى نقطةٍ جديدة وهي خاصة بالسياسة الأميركية تجاه إيران 79 ونظامها ورؤسائها، وكيفية التعامُل معها، أو وضع منهجيةٍ محددة في السُلوك الدبلوماسي المُقرَّر اتخاذه بصددها.
لكن بالطبع النهج الإسلامي في الحكم لم يستسغ الولايات المتحدة الأميركية قط، ولا في يومٍ من الأيام، وإن قبلت به تارةً فإنها تقبل به على سبيل أن يكون تحت ناظريها، ومُطلِّعةً بصورةٍ كاملة على فلسفته في إدارة البلاد، وعلى طريقة الحكم، ولا تُعطي له الدخول إلى منتدى ونادي الدول إلا عقب أن يُقدِم أوراق اعتماده كدولةٍ خاضعة لنظُم الدولة الحديثة ما بعد الحرب العالمية الثانية 1945، والذي وضعته أميركا، وازداد حجم هذا الدور، عقب الانتصار النهائي على روسيا، وسقوط الاتحاد السوڤيتي، وانتهاء الحرب الباردة عام 1990.
صعد رجال الدين إلى الحُكم بقيادة الخُميني، والذي كان لإطاحته للحسن بني صدر، أول رؤساء الجمهورية الإيرانية عقب ثورة 1979، إفساحه لرجال الدين المجال لئن يعتلوا كافة مناصب الجمهورية الناشئة، ويحكموا في مفاصلها، وبالفعل بُسِط سُلطان الدين الشيعي على أرض البلاد، واكتست الثورة بصبغةٍ دينيةٍ راديكاليةٍ متشددة.
يُشير التقرير إلى أنه منذ عام 1979، والإدارات الأميركية المتعاقبة في الحكم تحاول تغيير سلوك النظام الإيراني، أو حتى تغيير النظام نفسه، إذا نحن نتكلم عن نهايات حكم چيمي كارتر مرورًا برونالد ريجان، وچورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وچورچ بوش الابن، وباراك أوباما، وانتهاءً بدونالد ترامب.
لكننا نستنبط شيئًا هامًا في سياسات رؤساء الولايات المتحدة منذ انتصار الثورة في إيران، وهي أن سياساتهم كانت تأتي على نقيض مقصودهم، فرغبتهم في تقويض دعائم نظام الثورة عبر مناهج مختلفة كانت تُفضِي بقوة إلى العكس، في تقوية إيران لاسيما اجتماعيًّا.
تقول د.فاطمة الصمادي في بحثٍ لها باسم “العلاقات الإيرانية الأميركية: قطيعة لا تمنع الصفقات”، في كتاب “العلاقات العربية الإيرانية في منطقة الخليج”، الصادر عن منتدى العلاقات العربي والدولية، عام 2015، أن انتصار الثورة في إيران، أوجد أو جاء بنزعاتٍ استقلالية ومُعادية للنفوذ الأميركي، وقد أخذت على عاتقها أن تصل بدورة العلاقات مع أميركا إلى نفقٍ مظلِم لا يؤدي سوى إلى القطيعة.
قصّت إيران هذ الشريط عبر إيمانها أن أميركا لم تكن يومًا مع ثورتها الإسلامية، وأنها دعمت الشاه، واحتضنته وحاولت الحيلولة دون انتصار الثورة عليه، ولكن كانت العلاقات بين الخُميني وچيمي كارتر وصلت لحدٍّ مأساويّ وبدا أنه لن تكون هناك علاقات سوية بين الطرفين، وهذا ما أثارته حادثة اقتحام السفارة الأميركية واحتجاز الرهائن على يد موسوي خوئيني وعدد من الطلبة، في عام 1980، تُضيف الدكتورة أن هذه الحادثة كانت نقطة حساسة بالنسبة للإدارات الأميركية المتعاقبة، حتى أن من شدة تأثيرها في التاريخ الإيراني الأميركي، عدّها الخُميني “ثورةٌ ثانية، وأكبر من الثورة الأولى”، ومن هُنا حكمت الإدارة الأميركية على العلاقات مع إيران بإما تغيير سلوك النظام أو تغيير النظام نفسه.
يذكر تقرير المجلة أن على سبيل المثال، إدارة چورچ دبليو بوش، اتخذت خيارًا عسكريًّا تحذيريًا بقوة وبصُورةٍ غير مباشرة، لردع إيران وإيقاف مخططاتها التي قد أصبحت تُمثَّل بصورةٍ خططية واضحة لاسيما في البُلدان المجاورة لها، فأحاطت أميركا إيران بأكثر من 250 ألف جندي أمريكي في العراق وأفغانستان المجاورتين، ودعمت نشطاء الديمقراطية الإيرانيين.
ولكن خلال فترة حكم بوش، هاجمت طهران القوات الأميركية في العراق دون هوادة كما يصف التقرير، وهذا تأّتى عبر مليشياتها الشيعية التي طفت على السطح، ودعمها لحركات المقاومة العراقية، كما قد تراجعت المعارضة السياسية في إيران من الأساس على إثر المناخ العام الذي شيده النظام الإيراني لنفسه في الداخل الإيراني بأنه في حالة جهاد ضد الأميركان، فاصطف الشعب خلف نظامه، بالإضافة إلى حالة القمع التي كانت مُسلَّطة على كل المُنادين بالتغيير من قِبل أذرع النظام الأمنية،كما أدت حرب العراق، التي كانت تهدف إلى نشر الديمقراطية العراقية إلى إيران على حد زعم أميركا، إلى نشر الثيوقراطية الإيرانية في العراق، وحتى هذه اللحظة لا زال الشيعة يتسيدون الأمر في العراق، ويدخلون في حروبٍ طاحنة مع السُنّة.
خلّف أوباما تركة بوش الابن الثقيلة، وأصبح على عاتقه تغيير صورة أميركا التي حُطت إلى الأرض والثرى، بأنها رأس الشيطان في العالم، وقرّر أوباما أن يكون مناهضًا لبوش، وسعى لإرسال رسالةٍ إلى طهران، مفادها أن أميركا ستُدشِن عصرًا جديدًا مع إيران، أساسه التقارب والود مع طهران.
حتى أن أوباما أرسل رسائل عديدة كتبها إلى آية الله خامنئي. وأمضى وزير الخارجية جون كيري -الذي سعى حين كان نائبًا في مجلس الشيوخ في العام 2009 إلى زيارة طهران- وقتًا أطول في التحدث مع وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، ربما من أيٍّ من نظرائه في العالم.
بل أن أوباما وجّه رسالةً تهنئة في فترة رئاسته الأولى إلى الإيرانيين، بمناسبة عيد النوروز الخاص بهم، وعقب عام من إعلانه بداية جديدة مع طهران، جدد أوباما عرض إدارته، بإجراء حوار مع طهران بعد عام من فشل عرضه الأول، حتى أن أوباما اقتبس في عرضه الأول هذا مقتطفات من أحد الشعراء الإيرانيين المعروفين ذائعي الصيت ويُدعى، سعدي الشيرازي، والتي قال فيها:
بنو آدم جسد واحد ::: إلى عنصرٍ واحد عائد
ولكن بحكم نبرة الاستعلاء الأميركية، كانت خطابات أوباما صوب إيران لا تخلو بين اللحظة والأخرى من فرض العقوبات على إيران والتلويح أو التهديد بها إذ حاولت إيران امتلاك سلاحٍ نووي، وكان رد المرشد الأعلى، على خامنئي آنذاك نحو أوباما هو: “يقول كلمات ظاهرها وُدّي، لكنها ليست في الواقع سوى يد من حديد في قفازٍ من مخمل”.
ورغم إبرام أميركا أوباما الاتفاق النووي التاريخي وخطة العمل المشتركة مع إيران عام 2015، إلا أن أوباما لم يكن يُكِّنْ لإيران الخير ، إذ كشفت وثائق ويكيليكس أن أوباما في محادثاته مع الأوروبيين كان يدفع نحو فرض سياجٍ صارمٍ من العقوبات على إيران، وأن سياسة أوباما صوب إيران كانت خطين متناقضين بالمرة، الأول ظاهرها معلَن والآخر خفيّ يناقضه، كما أظهرت د.فاطمة في بحثها، بينما على الطرف الآخر كان السلوك الإيراني الداخلي والخارجي والعداء للولايات المتحدة لم تظهر عليهما أي إشارات تدل على التغيير، كما أشار تقرير المجلة.
وبالعكس انتشرت إيران، وقويت شوكتها على إثر الاتفاق وقررت الانطلاق، فكانت سياسة أوباما هي الأُخرى أتت على نقيض هدفها.
#نستكمل في التقرير القادم عن العلاقة المأزومة بين إيران وأميركا ترامب.