يستكمل تقرير مجلة ذا أتلانتك قضية انهيار النظُم الاستبدادية، والتي تدور رحاها على قاعدتين أساستين كما يتناول التقرير، وهُما:
- الضغط من القاعدة.
- الانقسامات في القمة.
كما يواصل التقرير في طرحه: “وبينما توجد في كثيرٍ من الأحيان علاقةً تكافلية بين هاتين القاعدتين -فقد تؤدي الاضطرابات الشعبية إلى إثارة الانقسامات النخبوية- يمكن للمحاولات الفجة من قِبل القوى الخارجية للتحريض على تغيير النظام أن يؤدي أيضًا على تعزيز التماسك”.
هُنا فقط نستطيع التعويل على إحياء ترامب للنظام الإيراني الثوري المستبد، كيف من الممكن أن يُعيِد القوامة والاستواء في جسدٍ مهترئ من الأساس لاسبيل لمداواته، تعزيزًا لهذه السردية فإن التقرير تناول سعى بومبيو إلى تحريض الشعب الإيراني ضد نظام إيراني يصوره ككتلةٍ واحدة موحدة.
سنجد أن بومبيو صرّح قائلًا: “هنا في الغرب، غالبًا ما تتم التفرقة بين الرئيس روحاني، ووزير الخارجية ظريف عن السلوك الإرهابي الخبيث وغير الأخلاقي للنظام”. ومع ذلك، فإن روحاني وظريف هما القائدان المنتخبان. أليسا هما الأكثر مسؤوليةً عن معاناتك الاقتصادية الخاصة ؟ هل هذان الاثنان غير مسؤولين عن إهدار الأرواح الإيرانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط؟”.
عبر هذا التصريح سنجد أن حديث مايك بومبيو يحمل نفطتين هامتين وهما؛ أن بومبيو قصّ شريط الفلسفة الجديدة الحاكمة للتعامل الدبلوماسي من قِبل الولايات المتحدة الأميركية تجاه الجمهورية الإيرانية، تفجير الوضع من الداخل وتأليب الإيرانيين على حُكامهم والمسؤولين عنهم للثورة عليهم وإسقاطهم.
بالإضافة إلى معرفة الولايات المتحدة بأمور الاختلاف والتباين بين الأطراف والأحزاب والاتجاهات الحزبية والتيارات السياسية داخل إيران، لكننا سنجد تقييمًا خاطئًا لهذا الأمر، فروحاني وظريف لا نستطيع التفرقة بينهما إذ أنهما يحملان ذات التوجه، وينتسبان إلى التيار الإصلاحي، ويتحركان في نفس المسار على خِلاف المسار الذي يسير به خامنئي والعاملون معه، رُغم عدم صوابية التقييم الأميركي ولكن القصد هُنا كان لمُرادٍ آخر يتمثل في تحريك الشعب ضد نظامه، واللعب على وتر الغضب، ورفع حِدية وتيرة الشعور بالظلم وتغليبه ليكون هو الشعور الغالب لدى أبناء الشعب الإيراني.
واختص بحديثه النقطتين الاقتصادية والإنسانية، وهما النقطتان البارزتان في وعي الجماهير، واللتان تُفجِران الثورات وتُشعلها، وإيران حاليًّا مهيَّئةً لذلك، فحالتها الاقتصادية المزدرية، وأبنائها الذين يسافرون صوب وجهاتٍ عدة ويعودون مُحمَّلين في نُعوشٍ وتوابيت، أبرز مثالين يُفخِّخان الوضع ويُحمِّلانه أكثر مما يحتمل.
يستمر التقرير في عرض نقطةً جديدة كانت جديرة هي الأُخرى بإثارة البحث والنقاش حولها، واستدعيا فيها نقطة أو فكرة “ديمومة الأنظمة الثورية”، وهو بحث دشنه العالمان السياسيّان، ستيفن ليفيتسكي، ولوكان واي.
وكانت النظرية تدور حول مدى استدامة النظُم الثورية في الحُكم، وهي تلك التي أُنشِئت على إثر نضالٍ متواصل وإيديولوچي وعنيف من الأسفل وطبقات المجتمع الدُنيا، حتى وصل صعودها وثورانها إلى أعلى ذروة، وتفجرت الثورات، وهذا المثال كما أورد التقرير ينضوي ويندرج أسفله، اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابق، وكوبا، وإيران، والتي عادةً ما تشترك في أربع صفات تعزز ديمومتها، وهي كالآتي:
- تدمير مراكز القوى المستقل
- الأحزاب الحاكمة المترابطة
- إحكام السيطرة الحزبية على قوات الأمن
- أجهزة قمعية قوية.
بالتدقيق في هذه النقاط سنجد أن الخُميني عندما فجّر الثورة في إيران، وقدم من العراق لمتابعة الأمور عيانًا، قد كان كامنًا لديه تحقيق هذه النقاط الأربع وتفعيلها، وهو ما صنع بالفعل عقب دفع الثورة للمحافظين الراديكاليين للإمساك بزمام السُلطة، فقد شكَّل هيئات ومجالس ضمن عبرها السيطرة على كافة مفاصل الدولة، وإعطاب أي مراكز قُوى تحِد من سلطاته ونشر أذرعه على طول البلاد وعرضها.
وأطلق عُصبتهُ الأولى تنتشر بشكلٍ أُفقيٍ طاغٍ على من عداها، وعضّدها وزرع أنياب ومخالب لها جعلها تنجح في السيطرة على القوة الأمنية للبلاد، ودشّن سياسة الإحلال والتجديد، وفوَّر جيش الشاه بأكمله، وأقام وحدة الحرس الثوري الإيراني والتي تمتلك نفوذ وسُلطات تتعدى سُلطات الجيش في الوقت الحالي، وأنشئ قوات الباسيچ، ليُطلِقها على معارضيه، وكل من تُسوِّل له نفسه العبث بنظام الثورة.
يُضيف الباحثان أن الصفات الأربعة تنطبق على إيران. وأهمية هذه الصفات تكمُن في “تحصين الأنظمة الثورية ضد انشقاق النخبة، والانقلابات العسكرية، والاحتجاجات الجماهيرية – وهي الأسباب الرئيسة الثلاثة لانهيار الأنظمة الاستبدادية.
سنرى هُنا السبب الرئيس في فشل تظاهرات يناير / كانون الثاني مطلع هذا العام في الوصول إلى مآربها، وقد وصل النظام الذي أنتجه الخُميني، مؤسس الثورة وأول مرشديها، والذي سلّمه إلى علي خامنئي، إلى ذروة سيطرته وإحكامه على كافة مناحي ومرافق ومؤسسات الدولة، وامتلك الآلة القمعية التي كان بصدد إطلاقها على المتظاهرين في حال تطورت مراحل تظاهراتهم.
وقد ساهمت هذه العوامل في تشكيل النظام الثائر المُستبِد، واستلهمت التجربة الإيرانية عن دون قصد فاشية ستالين ومن سبقوه ومن تلوه وهم أبناء البروليتاريا الذين قامت على أكتافهم الثورة البلشفية عام 1917، ولكنهم كانوا نموذجًا قمعيًا بامتياز وقد خالفوا طريق أبيهم الأول، كارل ماركس، صاحب النظرية، وكانت سجلات حقوق الإنسان لديهم أشهد من أن تُسرَد على مدى الانتهاكات التي أقاموها في معارضيهم.
يُوغِل التقرير في التأكيد على موثوقية بحث كُلٍ من ليفيتيسكي وواي، فيُفيِد التقرير أن الجمهورية الإسلامية شهدت نوبات من الاضطرابات الشعبية الكبرى في الماضي، وأبرز مثالين على ذلك مظاهرات الحركة الخضراء في عام 2009 والتي قادها طُلاب الجامعات على إثر تزوير الانتخابات الرئاسية، وتظاهرات يناير / كانون الثاني هذا العام، على إثر الأوضاع المعيشية بالغة السوء، والتي كانت تضرب بلا رحمة على رأس مجتمعٍ غارقٍ لأُذنيه في الفقر المدقع، في مثل هذه الأزمات والتوقيتات أصبح لا مجالَ للنخبة السياسية والعسكرية والتي عادةً ما تكون مُفكَّكة، لئن تظهر بهذه الصورة أمام الجماهير الغاضبة، أو تكون رؤاها شتاتًا ويُصبِح كل حلفٍ يسير بخُطةٍ أو منهج مُخالفِ للآخر، ففريق يجنح نحو السِلم ومحاولة امتصاص الغضب، وفريقٌ جنح نحو القمع والردع لئلا ينتشر التمرُد.
ومن ثمَّ فقد توصلت هذه النخبة إلى إدراكٍ خاص بالاتحاد معًا وألا يكون هناك مجالًا للفُرقة، لأن هذا مما قد يُزيد الأمور ضعضعةً وتهاونًا من قِبل الجماهير بقدرها كسُلطةٍ حاكمة، وسيترتب عليه فنائها وانهيار نظامها، وفهمت هذه النخبة دائمًا أنها إذا لم تتحد معًا فقد تفنى جميعها.
قوة الجهاز الأمني القمعي، كان العامل الرئيس الذي سيُستثمَر فيه بقوة، من قِبل الخُميني وخامنئي، وستكون اليد التي تعمل حينما تتوقف تروس العمل السياسي عن العمل، والمليشيات التي ستؤسَّس ستصبح فيما بعد لها إطار قانوني شرعي، وستؤطَّر وسيمتلكون زمام البلاد فيما بعد، وهُما قوة الباسيچ والحرس الثوري الإيراني.
#وهو ما سنناقشه في الجزء القادم.