انتهينا في الجزء السابق من الاستفسار حول كيفية إحياء النظام الأميركي الحاكم بقيادة ترامب لنظام الثورة المريض في إيران.
لكن قبل الاضطلاع بهذا السؤال والإجابة عنه، نحا التقرير صوب قضية أُخرى وهي قضية الربيع العربي وما أثاره هذا الربيع من قلبٍ لموازين القُوى وتغير الفاعلين والأدوار التي تتعلق بهم في هذه البُلدان، وتأثير رياح هذا الربيع ليس على البلدات التي قامت فيها بل أيضًّا على منطقة الشرق الأوسط ككُل لاسيما الخليج وإيران.
سنُعبِر عن الحالة التي أحدثها الربيع العربي في مِصر، وسُورية، وتونس، واليمن، وليبيا، بمطلع إحدى قصائد الشاعر التونسي الراحل، أبو القاسم الشابي، حينما قال:
كانَ الربيعُ الحُيُّ روحاً، حالماً ::: غضَّ الشَّبابِ، مُعَطَّرَ الجلبابِ
يمشي على الدنيا، بفكرة شاعرٍ::: ويطوفها، في موكبٍ خلاَّبِ
والأُفقُ يملأه الحنانُ، كأنه ::: قلبُ الوجود المنتِجِ الوهابِ
أثَّر هذا الربيع بوهچه وزهوته وقوته تأثيرًا حادًّا على فلسفات الحكم والنُظُم في الواقع، وفي جانبه الأكاديمي التنظيري البحت في العلوم السياسية، وأبرز ما أثاره التقرير في هذا السياق هو أن الربيع العربي كان بمثابة تذكير بأن انهيار الأنظمة الاستبدادية يبدو غير متصوَر أثناء حكمهم، وحتميًا بعد سقوطهم.
إذن فالقائمين على هذه الأنظمة هُم ليسوا محل النقاش، لأن سقوطهم هو صكّ نجاح الثورات في تحقيق أبرز أهدافها، وقد كان هذا هو الاعتقاد السائد لدى الثوار أن سقوط رؤوس الأنظمة هو ترادف لسقوطها ذاتها، وقد كانت هذه الخطيئة الإدراكية الكُبرى التي اقترفها الثوار ومهّدت الطريق للثورات المضادة والدول العميقة في سحق الثورات إما عبر انقلاباتٍ عسكرية أو تدخُلاتٍ أجنبية أو تقاعُس ثوري. وهو ما حدث في كافة بُلدان الربيع العربي حاليًّا وقد تبددت ثوراتهم التي قامت منذ سبع سنوات، وسُكِّن قائموها إما السجون أو القُبور.
ولكن النظُم هي محل البحث، والتي كان مُعتقَد أنه من المستحيلات أن تتداعى أثناء حُكمها، ولكنها حتمًا ستتهاوى أركانها بصورةٍ تدريجية عقب سقوطها المُريِع.
وقد استدعى التقرير ما يُقوّي حُججه وادعاءاته بهذا الصدد في الحالة الإيرانية، لاسيما الفرضية الثانية والتي تتعلق بالسقوط الحتمي للنظام عقب انهياره، وفي هذا السياق، قدّم التقرير اقتباسات من مقالٍ لأستاذ علم الاجتماع الإيراني، محمد فاضلي، على شبكات التواصل الاجتماعي، وقال فيه، أن البلاد تشهد “تقاربًا للأزمات” – اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية وچيوسياسية – “على نحوٍ لم يشهده أي بلد آخر في العالم”.
لقد أوچز فاضلي الوضع بصُورةٍ واعيةٍ للغاية، فقد لخّص الحالة المأزومة في إيران وكأنها كرة جليد تكبُر مع مرور الوقت، وتچذب عبر دحرجتها تلك، كافة الأزمات من اقتصاد ومجتمع وسياسة وعسكريتاريا و حتى الچيولوچية منها، وهي تتمدد ولا تتوقف والنظام في إيران قد أوشك إن لم يكن على استنفاذ كافة أوراق حلوله.
لم يتوقف التقرير عن رصد عن هذه الحالة عند الجانب النفسي، بل رصد الحالة الإعلامية للمُراسلين الأجانب في إيران والعاملين في المؤسسات الإعلامية المخضرمة ذائعة الصيت، لا سيما “نجمة بزورغمير”، الصحفية والمحررة في صحيفة فاينانشيال تايمز، وقد دوَّنت مقالًا لها، في 7 مايو/ أيار 2018، واستفسرت فيه عن شيءٍ هام، وهو :”هل بدأ العد التنازلي لانهيار جمهورية إيران الإسلامية؟”، وقد اقتبست من رجلٍ أعمال إيراني ربما يردد دون قصد مقولة دي توكفيل:
“أن الأنظمة الاستبدادية تكون أكثر ضعفًا عند محاولة الإصلاح”
وأضاف هذا الرجل قائلًا: “المشكلة هي أنه إذا قامت الجمهورية الإسلامية بإصلاح نفسها، فلن يبقى شيء منها. وإذا رفضت إصلاح نفسها، فسوف تموت”.
سنجد هُنا شيئًا هامًا يذهب بنا إلى عتبات الاتحاد السوڤيتي، عندما سقط عام 1991، وهو ما كان يعمل عليه ميخائيل جورباتشوف، آخر رؤساء الاتحاد، عندما بدأ سنّ طريق الإصلاح في الاتحاد، وكانت تُعرَف هذه السياسة باسم “البيريسترويكا”.
وقد كان هذا هو كتابة النهاية للاتحاد، والذي أُسِّس على قيم القمع والشيوعية المُتسلِطة والحديد والنار والضرب بلا رحمة على أيادي المنادين بالحرية والتغيير والمشانق التي كنت تتدلى عندما يخالف المواطنون “الأخ الأكبر” ورائحة الدماء التي كانت تفوح من أزقتها، وقد سرّعت إصلاحات جورباتشوف من عملية سقوط الاتحاد الذي كان متصدعًا لتوّهِ على إثر الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأميركية، والحركات الانفصالية التي انتثرت في جنبات الاتحاد.
والحالة الإيرانية شبيهة بالحالة السوڤيتية مع الاختلاف في بعض النقاط والتفاصيل، ولكن إيران إن اختطت بيدها طريق الإصلاح الذي يتبناه الإصلاحيون فسوف يلقون بجمهوريتهم إلى الهاوية، وهذا ما يُحيِلنا إلى البُنية المؤسساتية المُعقَّدة التي أسَّسها المحافظون حينما قُلِّدوا بالمناصب والسلطة وانتثروا في مؤسسات البلاد، وقد أصبحت عصيّة على الإصلاح، فإما أن تبقى على حالها وإما أن تأخذ السفينة كلها نحو قاع البحر.
وقد أشار تقرير المجلة إلى هذه النتيجة، عندما أكَّد أن خطاب بومبيو الأول كوزير للخارجية الأميركية ركز على 12 طلبًا قُدِّمت لقادة إيران خيارًا مماثلًا: “تحويل أنفسكم إلى نقيض ما كنتم عليه طيلة أربعة عقود، أو سنسعى إلى تقويض حكمكم”. وقد كانت هُناك فِطنة مبدئية من قِبل المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله علي خامنئي، متفهمًا لهذا الموقف، فأصدر أوامره بحظر أي تفاعل مع الحكومة الأمريكية.
وهذا مصدره وجهة نظر خامنئي الراسخة القائمة على اعتقاد أن الاستسلام للغرب لن يؤدي إلا إلى الإسراع بتغيير نظام الحكم، ليُجمِل تقرير المجلة هذه الحالة بأن الولايات المتحدة وإيران أصبحتا على مسارٍ تصادميِّ واضح.
ولكن هذه الصورة ترفع استنباطًا هامًا لنا، وهو منهج الولايات المتحدة الأميركية في التعامل مع الدول العاصية على النظام الدولي والتي لا تنخرط فيه، وهذا ليس وليد اليوم، بل كان ديدن حُكام الولايات المتحدة وأفعالهم في أميركا اللاتينية شاهدات حتى هذه اللحظة،عندما كانت تموج اليسارية الشيوعية في بلاد القارة، أمثال السلفادور وجواتيمالا وتشيلي وبنما والأرچنتين، فقادت أميركا موجات عاتية من حركات الانقلاب والثورات المضادة وراح ضحية فِعالهم مئات الآلاف من القتلى، وأضعافهم من المُعتقلين والمُصابين، بالإضافة إلى الخراب والدمار الواسعين اللذين لحقا بهذه المجتمعات والبُلدان واقتصادياتها وجيوشها وبُناها التحتية.
وقد تكرَّر الأمر في ڤيتنام، ومؤخرًا كان الأمر في كوريا الشمالية، والتي أذعن زعيمها للقُبُول بالتخلُص من مكمن قوته المتمثل في السلاح النووي والصواريخ الباليستية شديدة الخطورة، والذي كان يُوجِد منه نِدًّا في مباحثاته وحتى تهديداته مع أميركا، وهذا للتخلُص من الأعباء الداخلية المتمثلة في الاقتصاد المتهالك المُتداعِي بشدة؛ حتى أن أول طُعم أُلقِي في حديث بومبيو عن نتائج وتداعيات اللقاء بين أميركا وكوريا الشمالية، هو أن أميركا إذا استشعرت من قِبل الجانب الكوري الشمالي جِديةً قي التخلُص من السلاح النووي؛ فسوف تُقاَم شراكات اقتصادية بين البلدين، واستثمارات أميركية ستتدفق للدولة الحبيسة المُستهجَنة من قِبل النظام العالمي.
تفرض أميركا حصارًا صارمًا شديد الوطأة، وتحقن هذا الحصار بوتيرة عالية من التهديدات العسكرية بصفتها أقوى قوة عسكرية في العالم، وتُحرِّك أساطين من البيادق الخاصين بها، على كُل من أبدى ممانعةً وإباءً في الانخراط في فلك النظام العالمي الذي شيدته منذ عقود، تُرهِق هذه الحالة أي دولة حتى تطأطأ رأسها، وتُقبَل كعضوٍ بلا أي حقوق، في منتدى دول العالم. وهذا ما تريده أميركا من إيران، وتسعى لتحقيقه في عهد ترامب.
#نستكمل الجزء القادم.