للمرة الثانية، تهاوت العلاقات بين النظامين الإيراني والمغربي، عقب سِلسالٍ من الاتفاقيات ومدة من الزمان تُعطيك انطباعًا بأن مثل هذه الوشائج من المستحيل أن تُقطَّع، ولكن الدرس الُمستفاَد الرسمي من هذا الشكل، أن السياسة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، شُخُوص وأحلاف وكيانات واتفاقيات ودول وتحالفات، لا تعرف إلا معنى المصلحة البحتة بصورتها المادية، ولا تحمل في طياتها أي معنى لمبدأ أو قيمة أو قرابة أو تعاون فهذه السياسة ليست رومانتيكية كلاسيكية تُروَى في الروايات والكتب.
يقول چورچ أورويل: “لغة السياسة تم تصميمها لتجعل الكذب يبدو صادقاً والقتل محترمًا”.
وهذا ما حدث عام 2009، حينما انقلبت طاولة العلاقات رأسًا على عقب.
أزمة 2009
في السادس من أذار/ مارس 2009، أعلنت الرباط عن قطع علاقاتها مع طهران بصورةٍ نهائية، وذلك على خلفية دعم المغرب للبحرين في الأزمة التي اندلعت بين المنامة وطهران في تلك السنة.
ولكن أصبح الخلاف بين الجنلنبين يأخذ أبعادًا أكبر، ويخرج عن الإطار المُحدَّد له في مثل هذه الأوقات، وقد كان هذا من قِبل الجانب المغربي، عبر اتهاماتٍ مُوسَّعة من قِبل السلطات المغربية للبعثة الدبلوماسية الإيرانية بـ”نشــر التشيـــــع” في المملكة المغربية، وهو المنهج الديني لإيران وطيف واسع من الدول الإسلامية، والمُخالِف لمنهج أهل السُنّة والجماعة، وقد كانت الجمهورية الإيرانية تتدين بالمذهب الاثنا عشري، أشد المذاهب خلافًا للثوابت العقدية لمنهج أهل السُنة والجماعة، بل أنه قد تم إغلاق مدرسة عراقية بالرباط لاتهام القائمين عليها بالتهمة نفسها.
قفز العنصر الديني بكافة تجلياته وحمولته المفاهيمية إلى حلبة الصراع بين إيران والمغرب، والناظر إلى الوضع الذي يُمثِّله كُلٌ من حاكم المغرب، ومرشد الثورة الإيرانية، من نفُوذٍ دينيّ في بلديهما، يدرك أن هذه النقطة كان لا بُد من استدعائها والتعويل عليها في حالة نُشوء نزاع بين البلدين.
بين حاكم يستمد شرعيته من لقبه المُكنَّى بـــــ”أمير المؤمنين”، وأنه ولي أمر المُسلمين بصبغته الشرعية النابعة من نصوص القرآن والسُنّة، وسط مجتمعٍ يتدين يالمذهب المالكي، نسبة للإمام مالك بن أنس -رحمه الله- مؤسس أحد أربع مذاهب مُعتمَدة فقهيًّا لدى عوام المسلمين السُنّة وجموعهم. وبين رجلٍ أتى على ظهر ثورةٍ دينية بحتة، حتى الآن يُقاَلُ عنها الثورة الإسلامية، وأنها قد استمدت شرعيتها من مبادئ الدين الإسلامي، وأن لا بُد من هُناك مُرشِد يقود ويحكم حركة الدين والسياسة في المجتمع، بصبغةٍ شيعية اثنا عشرية، وهو أحد مذاهب الشيعة والذي ينتثر في كامل البلاد.
سردنا في مقدمة الجزء الرابع من سلسلة “العلاقات الإيرانية المغربية”، عن كيفية استخدام ملك المغرب، الحسن الثاني، للخطاب الديني في صراعه مع إيران، حينما قام بتكفير الخُميني، داعي الثورة ومُؤسِّسها والشخصية التي تشربها الإيرانيون وآمنوا بها نظرًا للكاريزما التي كان يتحلى بها، وقد كان ذلك مرتين عامي 1982، و1984، آخذين في الحُسبان أن الملك عندما باح بتكفيره الأول للخُميني عام 1982، كان على أساس فتوى استصدرها من فُقهاءٍ مغاربة، وهذا يُبيِّن لنا مدى فعالية الخطاب الديني وأهميته لدى ملوك المغرب.
أشار بيان وزارة الخارجية المغربية آنذاك إلى تقارير تُظهِر دعم إيران لحركة تشيع في المغرب، مما أدى إلى إغلاق السفارة الإيرانية بالرباط عام 2009م.
استشعرت المغرب أن هذا الدعم الإيراني هو إساءة لمقومات المغرب الدينية الجوهرية، والمس بالهوية الراسخة لشعبه ووحدة عقيدته ومذهبه السني المالكي؛ فقد قامت إيران على حد ذكر البيان بضخ أموالٍ هائلة لنشر التشييع في صفوف المغاربة، والمقيمين منهم في البلاد الأوروبية بشكلٍ خاص.
كما لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان شعور المملكة نابع من استشعار الملك نفسه بالإساءة، إساءةٌ تابعة من خطرٍ كان يتحسسه الملك من أن إيران عبر نشرها التشيع فهي تضرب الملك في واحدةٍ من أبرز وأهم مصادر إمدادته الشرعية في المملكة، ومن الممكن أن تُجرِده من السُلطة الأكثر تأثيرًا في نفوس المغاربة المُمثَّلة في “الملك أمير المؤمنين”، ليس لفظة “الملك” فقط؛ أي الولاية الشرعية الدينية لا الدستورية التنفيذية.
البيان أضاف أن هذه الأعمال تعد تدخلًا في الشؤون الداخلية للمغرب؛ وفقًا لمخطط مدروس من قبل، والمس بأحد مقدسات المملكة؛ مما نتج عنه من تداعياتٍ أهمها قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران.
في تقريرٍ لموقع هسبريس، يعود إلى عام 2015، عبّر عن أن هناك الكثير من الغموض خصوصًا في ما يتعلق بالإحصاءات الحقيقية لظاهرة التشييع والحجم الحقيقي للنشاط الشيعي وخريطة انتشاره في المغرب، كما أن هنالك الكثير من التحفظ والحساسية في تناول هذه القضية على المستوى الرسمي، حيث يتم الاكتفاء عادةً بالتصريحات وتغييب الإحصاءات والمصادر الرسمية للظاهرة، على حد ذكر التقرير.
كانت قطيعة 2009 أيضًا لسببٍ جوهريٍّ عام، وهو أزمة العلاقات بين الجانبين الإيران والبحريني، عام 2009، حيث أعلنت إيران من خلال أحد مسؤوليها، أن البحريـن تعتبر الولاية الإيرانية الرابعة عشر. وماچت الدنيا على إيران آنذاك، وانبرت البيانات والخطابات والتصريحات في التتالي، ووقفت المغرب موقف الرفض من التصريح الإيرانيّ؛ حيث أرسل المغرب وزير خارجيته إلى المنامة لتسليم رسالة تضامن من الملك، محمد السادس، لملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة.
وثارت إيران على المغرب في تضامنها مع البحرين، واشتدت وتيرة العراك الدبلوماسي بين البلدين، وانتهى في آخر المطاف إلى أزمة قطيعة بين المملكة المغربية و الجمهورية الإيرانية، وستستمر حتى عام 2014، العجيب أن العلاقات الإيرانية البحرينية ذاتها ظلت على هدوئها ولم تشهد ما شهدته العلاقات الإيرانية المغربية,
كما كان ملف البوليساريو الذي كان مُغلَّقًا لتوه، بات يُفتَح من جديد، ويفتح معه تأزُمات أكبر، فمع صُعود الألفية الثانية بدأت إيران التفكير في إلغاء التجمد في العلاقات مع البوليساريو، والتزام الحياد الإيجابي بين المغرب والبوليساريو؛ أي إمساك العصا من منتصفها، وبالطبع لم ينل هذا إعجاب المغرب بالكُلية وطلبت من الجانب الإيراني إعلان مُفاصلةٍ نهائية في هذا الشأن، إما المغرب أو الوليساريو، حتى أن الخارجية الإيرانية في فبراير / شباط 2007، أعلنت عن دعمها لحلٍ سياسيٍّ دائم بين الأطرف المعنية، وهذا ما أغضب المغرب التي طالبت إيران باحترام مبدأ السيادة الداخلية في تحديد موقفٍ واضح من ملف الصحراء باعتباره شأنًا مغربيًا داخليًا محض.
ولكن كان من الظاهر أن إيران ستُخالِف خط المغرب، وأنها ليس لديها اهتمام بنيل رضاها، وظهر هذا عبر تطور وتقدُم العلاقات الإيرانية الجزائرية، إذ أن الجزائر آنذاك كانت في علاقاتٍ شديدة السوء مع المغرب، لكون الجزائر طرف فاعل في قضية الصحراء الغربية، وقد زار الرئيس بوتفليقة إيران عام 2000، وزار محمد خاتمي الجزائر عام 2004، وهذا أبرز للمغرب أ، إيران كشفت عن وجهها الحقيقي لديهم، وأنها ليس لديها أدنى اهتمام بالتحصُل على علاقاتٍ دبلوماسية جيدة وبناءة مع الإدارة المغربية.
ومن ثمَّ كان لا بُد من وقوع القطيعة بسبب تضافر كل هذه المُسببات التي كان قيامها من الاستحالة بمكان أن تجغل العلاقات بين الطرفين تمر بشكلٍ هادئ أو طبيعي.
ولكنها لم تكُن النهاية فماذا حدث عقب ذلك؟.
#نستكمل الجزء القادم.