رحلةٌ كانت صوب واشنطن من قِبل محمد رضا بهلوي وزوجته، في يونيو / حزيران لعام 1964، لم تلبث الوِجهة إلا أن تمر على عددٍ من البلدان وكان منها المغرب، أمرٌ أبرز قصّ شريط العلاقات بين الجمهورية والمملكة، ردّ الحسن الثاني، ملك المغرب آنذاك، الزيارة لبهلوي عندما زار طهران في أبريل / نيسان 1968، وهو نفس العام الذي شهد الرحلة الثانية لبهلوي وزوجته إلى الرباط، ثم الزيارة الثالثة، في عام 1969، لحضور القمة الإسلامية الأولى في الرباط.
كما كانت هُناك رغبة توافق تحمل في طياتها أسبابًا هامة، تمثلت في ضرورة التنسيق السياسي والأمني بين الطرفين، في ظل صراعٍ فكريٍّ مستميت كانت تخوض غماره إيران في محاولاتٍ منها لدرء ومحاصرة المد القومي العربي والنفوذ السوڤيتي من خلال مشاركتها في حلف بغداد.
حلّت نكسة 1967 كمقصلة على نحر الفكرة القومية الناصرية الثورية فأراقت دمائها ودفنتها إلى لا رچعة، لاسيما مع وفاة مُدشِنها الرئيس المصري، جمال عبد الناصر عام 1970، ومن هُنا كانت هُناك أرضًا واسعةً جرداء مُفرَّغة من أي فاعل سياسي، لاسيما في أقريقيا وآسيا، وقد أرادت إيران الشاه ملأ هذا الفراغ عوضًا عن مِصر، واعتقدت أن الوقت قد حان لإقامة علاقات مع دول عربية وإسلامية تتقاسم نفس الرؤى والمصالح،حتى وإن كانت في دائرةٍ بعيدةٍ عن النفوذ التقليدي الإيراني وهي دائرة المغرب العربي.
وانتقل الأمر إلى تنسيقٍ أمنيّ بين البلدين كان في أوج مراحله زمن الحرب الباردة، كان هذا الأوج مُمثَّلًا في عملياتٍ أمنية واستراتيچية، وهذا ما نقله الصحفي المصري ذائع الصيت، محمد حسنين هيكل، في مقاله “الفرانكوفونية..وأخواتها”، على مجلة وجهات نظر، في عددها الثامن والعشرون، في مايو 2001.
وذكر تفاصيل اتفاقيةٍ سِريّةٍ وقعتها المغرب، مع فرنسا، إضافةً إلى المملكة العربية السعودية، وإيران، ومِصر، في نهاية السبعينيات. كما ذكر أيضًا أنه اطلع على وثائق متعلِقة بهذه الاتفاقية بتصريحٍ من الخميني ذاته.
كانت الوثائق تتضمن نص معاهدة تحمل عدة توقيعات أبرزها توقيع ألكسندر ديمارنش، رئيس المخابرات الفرنسية في تلك الفترة، والچنرال، أحمد الدليمي، رئيس الاستخبارات الخارجية المغربية آنذاك، ونظيره الإيراني، نعمة الله ناصري، ونظيرهم السعودي، كمال أدهم. واشتملت أيضًا على تفاصيل لواحدةٍ من أهم العمليات السرية في عصر الحرب الباردة، مُسجَّلةً عبر اتفاقٍ مكتوب وقع عليه الأطراف خِلافًا لكل المتعارف عليه في التجمع وراء عملية السرية .
وأضاف هيكل، أن فرنسا بادرت عبر هذه الاتفاقية بأدوارٍ تُنيِطها لغيرها لئن تقوم بها في إفريقيا خاصة بها، حيث مستعمراتها وقِلاعها، نظرًا للبُعد الجغرافي والتاريخي بين فرنسا ومستعمراتها في إفريقيا، لذا توصل فكر فرنسا لعددٍ من حلفائها، لا سيما المغرب وهو الأمر الذي لاقى هوى لديها، وعبر اتصالاتٍ سريةٍّ مكثَّفة تم الاتفاق، سنة 1975، في مدينة چدة السعودية، وسُميِّت مجموعة الدول المنضوية في الاتفاق باسم “نادي السافاري”.
معاهدة، نصت على أن تقُم فرنسا بتزويد هذه الدول الأربع بكل ما يلزمها من معداتٍ فنية، ووسائل تكنولوچية ومعلومات، وتقُم المملكة العربية السعودية بعملية التمويل المالي لدول المجموعة، وتقُم إيران بالعمل كشريك بالعرض من التخطيط إلى التمويل. وتقُم المغرب بتقديم المجموعات الميدانية والقوات الخاصة. وكانت أبرز عمليات مجموعة “نادي السفاري”، والتي شاركت فيها المغرب، حرب شابا، في زائير، عامي 1977و1978، وذلك عقب تدهور الأوضاع في إقليم كاتنغا.
عُدّ ذلك أبرز مثالٍ حي على مدى المواءمة والتماهي والشراكة التي كانت تجمع إيران والمغرب مع بعضهما البعض، وقد تطورت العلاقات الثنائية في هذه الفترة برصيدٍ من المعاهدات والاتفاقيات في حُقولٍ ومناحٍ عدة، كالاقتصاد والزراعة والفن، وكان من أبرزها اتفاقية الصداقة، واتفاقية إلغاء التأشيرات، واتفاقية التعاون التقني والعلمي، في الحادي والعشرين من حزيران / يونيو عام 1966.
لقد كانت العلاقات بين الحسن الثاني والشاه بهلوي تتسم بالهدوء والصداقة التي تُؤدَم وتُوطَّد يومًا بعد آخر، لكن حركة الزمان لا تتوقف والسيرورة تظل جزءً لا يتجزأ من طبيعتها، فشهدت العلاقات بينهما انقلابًا لحظيًّا في بعض المرات لاسيما عندما الجانب المغربي بضرورة تسوية قضية الجزر الإماراتية الثلاث، أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، باعتبارها إماراتية خالصة ولا حقَ لإيرانٍ؛ وهذا ما أثار حفيظة شاه إيران. والعكس صحيح فقد رفض الشاه التنازل عن صفقة طائرات “الفانتوم” التي طلبتها المغرب من الأمريكيين وقد راهنت الرباط للحصول عليها، وهذا ما ألقى بظلالهِ على العلاقات بين الطرفين ويُزيِدها توترًا.
ولكن بُعيد قيام الثورة الإسلامية الشيعية عام 1979، على نظام الشاه بهلوي بقيادة المرشد الخُميني، وهي الثورة العارمة التي أطاحت بالشاه ونظامه الشاهنشاهي وزُمرته بطول يدها، حتى أنه الآن تُدرَّس صنائع هذه الثورة بعد أن سطّرت اسمها بحروفٍ من نور في كتب الثورات. انقلبت هذه العلاقات الهادئة إلى كُتلٍ من نار لا يُستراَح منها إلا عبر إطفائها، وقد فعلت كلا البلدتين هذا فكانت القطيعة.
قطيعةٌ أولى
ومن الوئام إلى الشقاق، كانت العلاقات لا بُد أن تأخذ شكلًا جديدًا، ونستطيع أن نقول أن المغرب اقترفت فعلين هما كانا سبب القطيعة الأولى، الفعل الأول عندما أعلن الحسن الثاني عدم موافقته على ما حدث في إيران والانقلاب الذي حدث على نظام الشاه وجاهر بمعارضته لقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الفعل الثاني عندما ترك الشاه بهلوي إيران هربًا من بطش الثوار، وأصبح يتنقل بحثًا عن مأوى له بين الدول أصدقاء الأمس، وقد استضاف الحسن الثاني الشاه بهلوي في أراضيه، عام 1979 لفترةٍ قصيرة، قُبيل أن يسافر إلى جزر الباهاماس، ثم استقر به المقام في مِصر، فترة حكم السادات، حتى ظل بها إلى أن توفى ودُفِن فيها.
وجدير بالذكر، أن الشاه لاذَ بالحسن الثاني عندما بدأت المظاهرات والانتفاضة تهُب في إيران بطولها وعرضها، فقد جنّد المغرب كافة جهوده ومساعيه لحل الأزمة والخلاف بين الشاه وجماعة العلماء في حوزة قم .
وقد ذكر الدكتور، عبد الهادي بوطالب، أن الشاه طلب من الملك، الحسن الثاني، القيام بالوساطة بينه وبين الخميني وقيادة الثورة، وقد اختار الحسن مستشاره بوطالب للقيام بهذه الوساطة، وتوجه مبعوثًا عنه للعراق لملاقاة الإمام الخميني، إلا أنه فُوجِئ بقرار السلطات العراقية بترحيل الخُميني خارج العراق.
وقد شُيِّد اتفاق جديد مع الشاه على توجيه محاولة الصلح نحو معارضي نظام الشاه القاطنين على الأرض الإيرانية، وكان زعيمهم آنذاك هو آية الله العظمى، كاظم شريعتمداري، والذي التقاه بوطالب في مدينة قم وتباحث معه حول إمكانية نزع فتيل المواجهة مع نظام الشاه.
ولكنها كانت محاولات لم تُكلَّل بالنجاح أو تعرف طريق النور، وقامت الثورة وعُزِل الشاه كما قدمنا.
أثارت أفعال الحسن غضب النظام الناشئ لتوّه في الجمهورية، فساءت العلاقات بين البلدين، وبمرور الوقت كانت تسوء أكثر فأكثر، إلى أن استدعت البلدان سفيريهما، وخفضتا مستوى العلاقات الدبلوماسية إلى درجة قائم بالأعمال وكل هذا تم في نهايات 1979 وبدايات 1980.
ولكن القطيعة بين البلدين بصفةٍ نهائية، كانت في عام في 30 يناير / كانون الثاني لعام 1981، عقب موجةٍ من التأييد والدعم من قِبل الإعلام الإيراني لجبهة البوليساريو، بل دافعت إيران عن خطاب الجبهة الداعي إلى تقرير مصير الصحراء والانفصال عن المغرب، ولكن إيران لم تتوقف عند هذا الحد فحسب بل صعّدت من صوت قرعها على أبواب المغرب عقب إعلانها بصفةٍ رسمية دعمها لـ”حق تقرير المصير في الصحراء”، بل وافتتحت مكتب لـ”جبهة تحرير بوليساريو” في العاصمة الإيرانية، طهران.
مما اضطر الرباط إلى استدعاء دبلوماسييها من إيران، وقطعت علاقاتها مع طهران في اليوم الذي قدمناه.
تستشعر أن إيران كانت ترد الصاع للمغرب عقب استضافتها للحسن وهو أمرٌ أهان كرامة الثورة الوليدة، ومن ثمّ كان رد الفعل على درجة الفعل، فأهانت إيران المغرب وتعدت الخط الأحمر الذي لا تسمح المغرب لأحدٍ بتجاوزه، ولذلك كانت القطيعة الأولى والتي ستعد فيما بعد أداةً حاكمة لمسار العلاقات الإيرانية المغربية.