قررنا عبر تفجُر أزمة الأول من مايو / أيار الماضي استعراض، مسرى العلاقات الإيرانية المغربية على عدة حلقات لنُشيِر إلى الأدوات الحاكمة لهذه العلاقة التي تتس بالتوتر والانفجار الذي لا يغرف البّرَد يومًا إلا مُددًا نذيرة للغاية، فكيف كان شكل العلاقة بين البلدين، وكيف انتقلت إيران من الشرق البعيد إلى سواحل الأطلسي، وكيف كان رد المغرب عليها، وأيضًا كيف كان يحمل التاريخ مسار علاقاتهما؟.
انفجار الأول من أيار
في الأول من مايو / أيار الماضي، أعلنت المغرب على لسان وزير خارجيتها، ناصر بوريطة، قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران بصُورةٍ نهائية، وإغلاق سفارة المملكة في طهران، وطرد السفير الإيراني من الرباط. المُسوغ المبدئي كان متوافرًا، إذ حرص وزير الخارجية على ذكره، وهو أن هذه القطيعة تخُص العلاقات الثنائية حصريًّا بين البلدين، ولا علاقة له بالتطورات في الشرق الأوسط.
كما أن مبررات بوريطة كانت مجموعةً في بيان خارجيته، في المؤتمر الصحافي الذي أقامه، إذ فنّد أسباب هذه القطيعة والتي تمثلت في درجة التيقُن التي وصلت إليها المملكة من أن إيران وميليشيا حزب الله اللبنانية، تدعمان جبهة البوليساريو بتدريب مقاتليها وتسليحهم.
وأوضح بوريطة أن هذا القرار صدر؛ ردًّا على تورط إيران عن طريق حزب الله في تحالف مع البوليساريو يستهدف أمن المغرب ومصالحه العليا، منذ سنتين وبُناءً على حججٍ دامغة.
أسهب بوريطة في ذكر خطابٍ مُدجَّج بالأسانيد، كاشفًا عن علاقةٍ بدأت عام 2016 حين تشكلت لجنة لدعم الشعب الصحراوي في لبنان، وكانت برعاية حزب الله، تبعها زيارة وفد عسكري من حزب الله إلى تندوف، في إشارةٍ إلى مخيمات بوليساريو في الجزائر.
مضيفًا أن نقطة التحول كانت في 12 مارس / آذار 2017، حين تم اعتقال قاسم محمد تاج الدين، في مطار الدار البيضاء، بُناءً على مذكرة اعتقال دولية صادرة عن الولايات المتحدة تتهمه بتبييض الأموال والإرهاب، وهو أحد كبار مسؤولي مالية حزب الله في إفريقيا.
متابعًا: “بدأ حزب الله يهدد بالثأر بسبب هذا الاعتقال، وأرسل أسلحة وكوادر عسكرية إلى تندوف لتدريب عناصر من البوليساريو على حرب العصابات، وتكوين فرق كوماندوز، وتحضير عمليات عدائية ضد المغرب، كما تم إرسال صواريخ سام 9، وسام 11، مؤخرًا إلى البوليساريو”.
وأضاف قائلًا: “لدينا أدلة ومعطيات وتواريخ تُظهِر تورط عنصر واحد على الأقل بالسفارة الإيرانية في الجزائر في تنظيم كل هذه العمليات على مدى عامين على الأقل، وهذا الشخص هو العنصر الرئيسي لتسهيل العلاقات والاتصالات بين المسؤولين العسكريين في حزب الله ومسؤولي بوليساريو”.
وربط بوريطة بين عدم قدرة حزب الله الإقدام على مثل هذه الصنائع، وبين توجهها لإيران كمليشيا عسكرية تأتمر بأمرها، ولا تفعل عدا الذي تخططه القيادة الإيرانية لها. وأكد الوزير أنه لم يتلق من نظيره الإيراني، جواد ظريف، إجابات تدحض المعلومات المتوافرة لدى المملكة.
وتناول بوريطة قولًا -سنعود إليه- وهو أن قرار قطع العلاقات تم اتخاذه لاعتباراتٍ ثنائيةٍ محضة لا علاقةَ لها إطلاقًا بالتطورات الإقليمية والدولية، مؤكدًا أنه غير مُوجَّه ضد الشيعة أو الشعبين الإيراني واللبناني.
واختتم حديثه بأن المغرب لا يمكن إلا أن يكون حازمًا عندما يتعلق الأمر بوحدته الترابية وأمنه.
لقد كانت هجمةً دبلوماسيةً مُوسًّعة في فترةٍ تتسم آنذاك بالقلق والارتياب؛ نظرًا لانشغال الدبلوماسية الإيرانية بالترتيب والتحضير للتعامل مع موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي على لسان رئيسها، دونالد ترامب، لذا فلم يكُن وقت موفَّق على الجانب الإيراني.
واتسم الخطاب المغربي بحدةٍ وهجومٍ شديدين على إيران، كانت هاتان السِمتان وما يرافقها من تقاليدٍ دبلوماسيةٍ حادة تُتخَذ في مثل هذه الحالات، تتفق مع الغضب المغربي الحاد الذي يمتثل قائمًا مع أي أحدٍ كائنًا من كان عندما يفتح ملف البوليساريو معها، أي نستطيع أن نُعبِر أن البوليساريو تُعد مركزية “الولاء والبراء” لدى المغرب، من أراد التقرُب من المغرب فليُعلِن تبرأه من شيءٍ يُدعى البوليساريو ولا قاطنين فيه، ومن أراد أن يُحادِدها فليُعلِن بأحقية البوليساريو في نظامٍ جغرافيٍّ لها وتحورها لشكل دولة.
وهذا ما يفتح الباب أمامنا للاستفسار حول مسار العلاقات الإيرانية المغربية وكيف كان مسارها، ولماذا يضبط إيقاعها التوترات والخِيطة والحذر والقطعية شبه الدائمة
توافق من سجلات الماضي السحيق
تحمل العلاقة بين إيران والمغرب صفحاتٍ من الماضي البعيد، حيث حِقب متباعدة وأزمنة غابرة، إذ لها جُذور تاريخية تعود إلى فترة نهاية القرن السادس عشر الميلادي، خاصةً عندما قرعت أخبار المغرب أبواب الدولة “الصفوية” القائمة في إيران آنذاك، حول قوة دولة السعديين -الدولة الحاكمة للمغرب آنذاك- المتنامية خصوصًّا بعد انتصارها في معركة “وادي المخازن” ضد البرتغاليين، عام 1578م، وهذا كان بمثابة صدمة هزت العالم، وترتب عليها نتائج سياسية دولية، لا سيما منطقة شمال إفريقيا والغرب الإسلامي، وكان على رأس هذه النتائج، ارتداع الإمبراطورية العثمانية عن فكرة إخضاع المغرب لها، وقد كانت الخلافة العثمانية متشعبة إلى أن وصلت إلى الجزائر ولكن كانت المغرب عَصيةً عليها، وهذا ما دفع الشاه، عباس الصفوي،بأن يبعث بسفارته إلى الأشراف السعديين ليساعدوه على إشغال الأتراك العثمانيين عنه، لأنهم كانوا في ذات الوقت على صراعٍ معهم في العراق وأذربيچان، في ظل رغبةٍ متنامية من قِبل الشاه في مد نفوذه إلى هاتين المنطقتين.
ومنذ هذه اللحظة، وبعدما أدرك الصفويون مدى قوة المغاربة في صدّ العثمانيين ومجابهة نفوذهم، أدركوا حاجتهم الماسّة لهم، وأصبحت العلاقات لا تتوقف بين البلدين، والمراسلات لا تنقطع بين أصفهان ومراكش، حول هذا الأمر فترة حكم السلطان المغربي، أحمد المنصور الذهبي، آنذاك.
مقدمةٌ تاريخية تُبرِز أن العلاقة التي كانت تجمع بين الجانبين الإيراني والمغربي كانت علاقة مصالحية من الطراز الأول، وقد شهدت العلاقات بينهما تطورًا ملحوظًا نستعرضه في الجزء القادم، لاسيما مرحلة التوافق بين الشاه محمد بهلوي، والملك حسن الثاني، مرورًا بالقطيعة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، ثم انفراجة بدايةً من عامي 1991 و1993؛ خلّفت مزيدًا من الثمار على إثر التطبيع على صعيد العلاقات الثنائية، إلى قطيعةٍ كبرى عام 2009، ثم عودة بين عامي 2014 و2016 إلى حدثنا محل البحث وقطيعة الأول من أيار / مايو لهذا العام.