أصبح الحديث عن إيران وإسرائيل لا ينفض عن مداولات وطاولات الدوائر السياسية في العالم أجمع، وبات العالم يستيقظ ويغفو ويغِط على الصراع الدائر بينهما، وعلى حرب التصريحات المُنطلقة من هُنا وهُناك، وعلى البيانات والمُطالعات والقرارات التي تُتخَذ وتُقرَّر على حين غرة من كافة أرجاء العالم وآرائهم فيما حدث بعد انسحاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي مع إيران، عشية الثامن من مايو / أيار الماضي، وكان هذا بإيعازٍ ودعمٍ من إسرائيل.
دخلت إسرائيل وإيران على حدٍّ سواء مرحلةً أكثر جلاءً وتبينانًا عقب زوال وانتثار الرماد الذي كان يغطي النار، وهذا الرماد كان الاتفاق النووي، بينما النار كانت هي الشكل الذي يُمثِّل مسار أو رمزية العلاقة بين إسرائيل 48 وإيران 79، وكانت سيرورة الأحداث سريعة بدرجةٍ خاطفة، وجّهت إسرائيل ضربةً قاصمة للبنية التحتية الإيرانية المتواجدة على الأراضي السُورية عبر سربٍ من مقاتلاتها الطائرة، وقد كان ذلك ردًّا على قصف فيلق القدس لمواقع إسرائيلية في الجولان المُحتَل عبر 20 صاروخًا أضاءت سمائها، إيذانًا بمرحلةٍ لن يحكمها سوى التوتر والسلاح.
ولكن عند الانتقال إلى دائرةٍ أكثر أهمية، ألا وهو النزاع المُسلَّح الذي أُقِيم بين الطرفين، طيلة الشهور الماضية، وظهرت ذروته في ساعات الصباح الأولى من الخميس 10 مايو/ أيار 2018، عندما شنّت 28 طائرة إسرائيلية من طرازي F15، وf16، و70 صاروخًا منوَّعين بين الجو أرض، والأرض أرض قاصدةً بها كل ما هو إيراني في سُورية.
من هُنا نطرح السؤال هل من الممكن أن تُقاَم الحرب بين الطرفين؟
في ظل السيناريو القائم والذي يدور في عقول الكثيرين حول أن الحرب باتت تقرع الأبواب، وستجذب بسِلسالِها دولًا وأقطار وتأخذنا إلى حربٍ عالمية تطحن بأضراسها مجتمعاتٍ بل وتبيدها.
لكن من الواضح أن كلا الدولتين باتتا لا تؤمنان بهذا الحل لفض صراعهما القائم، وقد أشعلتا الصراع درءً لحربٍ أكبر لا يُستطَاعُ كبح جماحها.
إسرائيل وهدفها واضح، ألا وهو عدم السماح بترسيخ إيران وجودها العسكري في جوارها، وتسير عبر هذه العقيدة والفلسفة في تصفية تواجدها هناك، وإيران وقد حسمت أمرها على عدم ترك سُورية، ولن تتركها إلا بعدما تُعوِّض كافة التكاليف التي تكبدتها نظير إبقاء بشار على كُرسيّ الحكم.
في «مؤتمر هرتزيليا» الأمني قُرب تل أبيب المحتلة، أكد وزير الحرب الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، أن «إسرائيل ضربت كل البنية التحتية الإيرانية في سوريا، وتأمل أن يكون هذا الفصل قد انتهى”ـ وأضاف قائلًا: “إسرائيل لا تريد تصعيد الوضع».
كما سنجد على جانبٍ آخر، في اجتماع المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، “الكابينت” -المُكوَّن من رئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزراء الدفاع، والأمن الداخلي، والعدل، والمالية-، وقد نقلت القناة الثانية الإسرائيلية تصريحات بعض المسؤولين المنخرطين فيه، والذين ذكروا العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة دفعت الإيرانيين لإدراك أنهم غير قادرين على مواجهة تفوق الجيش الإسرائيلي استخباريًا وميدانيًا.
ورجحوا قولًا: «إيران فهمت الدرس، ولن تتورط في شيء ضد إسرائيل في الوقت القريب».
وقد ذكرت القناة الثانية أن الكابينت يرى أن الأچندة الإيرانية تغيرت، على إثر قرار الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وتُركِّز حاليًا على مواجهة القرار الأمريكي والضغوط الممارسة عليها.
وذكرت القناة نقلًا عن الكابينيت، أن إيران أصبحت معزولة دوليًا في قضية محاولتها تعزيز نفوذها في سوريا، فالأمريكيون والأوروبيون ضدها، وروسيا لم تقدم لهم المساعدة، فيما تجد إسرائيل نفسها مدعومة دوليًّا في موقفها الرافض لترسيخ إيران تواجدها العسكري ونفوذها في سوريا. -وهذه فرضية تقديرية مُخالفة للواقع-.
أُحجية التقرير، خاضتها وناقشتها الصحافة الإسرائيلية، وهي مسألة إمكانية اندلاع حرب جدية في المنطقة، بين إيران وإسرائيل، عقب التراشق العسكري من الطرفين.
عبر تغطيةٍ مُترجَمة من قِبل موقع عربي 21 لصُحفٍ ووسائل إعلام إسرائيلية، سنجد حالة من الطمأنينة الحذرة كانت تتملك الدوائر العسكرية والسياسية الإسرائيلية من عدم مَغبة قيام الجانب الإيراني بإشعال الموقف.
المراسلة السياسية لموقع «ويللا»، تال شاليف قالت إن “الجيش الإسرائيلي أبلغ الحكومة بأن احتمال اندلاع حرب ضد إسرائيل ما زال ضعيفًا، رُغم التوتر الأمني على الجبهة الشمالية، وقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي، لأن إيران وأذرعها غير معنيين بدخول هذه الحرب، ومع ذلك فإن حدوث بعض التطورات الميدانية التي قد تتسبب بحدوث حرب، ما زالت احتمالات قوية وكبيرة”.
الخبير العسكري بصحيفة هآرتس، عاموس هارئيل، ناقش نفس الفرضية، ولكنه قد وضع يده على نقطةٍ محورية تُفسِّر لنا عدم تنامي فكرة قيام الحرب، فقد أوضح أن هناك ميزان ردع متبادلًا بين إسرائيل وحزب الله منذ انتهاء حرب لبنان الثانية، عام 2006، حيث شهدت الحدود بعدها هدوء نسبيًّا، مرده إلى قناعتهما المشتركة المتوفرة بأن الدمار الذي ستتسبب به أي حرب قادمة سيكون كبيرا لكليهما.
استدعاء حالة حزب الله 2006 كانت ضرورية وهامة، للتأكيد على أن الحرب، لاسيما في العصر الحديث، هي تحمل كافة أوجه الإبادة والتدمير والفناء، ولا إسرائيل ولا إيران يريدان لنفسيهما ذلك، مهما وصل حد التراشق بينهما أو وصلت حالة العداء العسكري بينهما لقصف الصواريخ والطائرات.
وقد أضاف عاموس قائلًا: “تضاؤل فرص اندلاع حرب عسكرية بين إسرائيل والجبهة الشمالية يعود إلى أن حزب الله خارج لتوه من الانتخابات البرلمانية، ويتحضر لليوم التالي، فيما إيران تريد الاحتفاظ بالترسانة العسكرية للحزب لساعات الطوارئ الصعبة حين تهاجم إسرائيل مشروعها النووي، لكن كل هذه الاعتبارات قد تتغير فجأةً، في حال قررت إيران أن المواجهة مع إسرائيل حتمية، لأن الحزب اليوم يحوز على قدرات عسكرية نوعية أكثر مما جهزته إيران لنفسها داخل سوريا”.
وهذا سببٌ جديد تضعه إسرائيل في قائمة عدم قيام فكرة الحرب، وهو انشغال حزب الله -وهو الذراع الطولى لإيران بالمنطقة- بالعمل السياسي في الفترة الحالية، واهتمام إيران بالحفاظ إلى أكبر قدر على ترسانتها الصاروخية وإعلاء شأنها، وعدم رغبتها في تعرضها لسوء أيضًا، يجعل هذا إيران تتقهقر إلى الوراء عن إعلان الحرب.
كما ذكر الخبير الأمني في صحيفة يديعوت أحرونوت، رونين بيرغمان، أن إيران تشعر أن ظهرها للحائط، لاسيما بعد قرار ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي، ومع ذلك فإنها لا تريد إشعال حرب في الشرق الأوسط، والانتقام لتفجير قواعدها العسكرية وقتل رجالها في سوريا، في عمليات تنسبها لإسرائيل.
تتضافر هذه الأسباب جميعًا لتُشكِّل اطمئنانًا إسرائيليًّا من عدم إقدام إيران على إشعال عراكٍ معها، وتفجير المنطقة كلها لهجماتٍ مهما كان حجمها فلن تجعل إيران ترُد الرد الذي تظهر صيغته على أنه حرب.
وأن ما حدث في العاشر من مايو / أيار الماضي، ما هو إلا تنفيث عن بُركانٍ ظل خامدًا لعقودٍ وسنواتٍ طوال وسيعود مرةً أخرى خموده، وهذا في ظل الاهتمام الإيراني المُلاحَظ بالإبقاء على الاتفاق النووي، وتحقيق الاستفادة منه، وهو الأمر الذي جعل روحاني، وحتى خامنئي نفسه، إلى دعوة أوروبا بالنظر في الاتفاق النووي، وإبداء مواقفهم النهائية منه، ورأيهم حول الانسحاب الأميركي منه، وخطورة هذ الأمر في تهديد أمن المنطقة.
حتى الآن لا يُوجَد دليل ثابت على أن فيلق القدس قد أطلق الصواريخ العشرين صوب الجولان المُحتَل مما استجلب ردًّا إسرائيليًّا، ولكن إن كان قد فعل، فأصبحت الآن الكفتان متوازنتين، إيران ضربت فضُرِبت، وإسرائيل أنذرت فوفت، رُغم عدم تساوي الردين بأي شكل من الأشكال، فقد كان الرد الإسرائيلي أشد وأعلى وأكثر قوةً بمراحل قد تجعل الناظر لا يضع الاثنين في مقارنةٍ قط، ولكن انتهى أمر القتال حتى هذه اللحظة، لم ينتهِ ككونه قتالًا، ولكن انتهى كفكرةٍ قابعةٍ في عقول الكثيرين بأن هُناك ثمة حرب.
وختامًا، فقد صرَح الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أن بلاده لا تريد توترات جديدة في الشرق الأوسط، وقد كان رد أفيغدور ليبرمان: “هي رسالة مهمة أتمنى أن تكون حقيقية، فنحن لم نذهب إلى حدودهم، هم جاؤوا إلينا”.
وهذا ما يجعلنا نُجزِم، أن هذه الضربات المتبادلة السابقة كانت حربًا مُصغَّرة محكومة كبديلٍ عن حربٍ لن يُستطاَع كبح جماحها.
المصادر