في مساء يوم الأحد، التاسع والعشرين من شهر أبريل / نيسان الماضي، بثت القناة العاشرة الإسرائيلية تقريرًا يتحدث عن وجود لقاءٍ سريّ جمع بين ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وبعض المنظمات اليهودية الرائدة في الولايات المتحدة الأمريكية، تمَ في السابع والعشرين من شهر مارس / آذار الماضي، أحدث فيه بن سلمان تغييرًا كاملًا ، وصدمةً بالغة لقناعات الملايين من العرب عن توجه المملكة السعودية نحو القضية الفسلطينية ورأيها فيها.
وقد نقل التقرير تصريحاتٍ أحدثت الكثير من التداعيات في المنظومة القيمية والفلسفية الجديدة للمملكة في رؤاها نحو قضاياها الخارجية. قال محمد بن سلمان: «منذ 40 عامًا، والقيادة الفلسطينية تُفوّت الفرص، حيث رفضت جميع المقترحات التي قُدِّمت لها. لقد حان الوقت كي يقبل الفلسطينيون الاقتراحات والعروض، وعليهم العودة إلى طاولة المفاوضات، أو فليصمتوا ويتوقفوا عن التذمر».
وحسبما أورد التقرير، فقد قال بن سلمان لقادة المنظمات اليهودية: «القضية الفلسطينية ليست الأولوية القصوى لحكومة المملكة ولا للرأي العام، وهناك قضايا أكثر أهمية، وأكثر إلحاحًا للتعامل معها مثل إيران».
وتابع قائلًا: «على الرغم من ذلك، يجب أن يكون هناك تقدم حقيقي نحو اتفاق مع الفلسطينيين قبل أن يصبح بالمستطاع تعزيز التطبيع بين المملكة العربية السعودية وبقية العالم العربي مع إسرائيل».
لم يكن هذا هو التصريح الأول لولي العهد، الذي يتناول فيه القضية الفلسطينية بمقدارٍ ليس بضئيل من التهافت والدُونية والتقليل، وعلى النقيض، تمجيدًا وإعلاءً وشرعنةً لإسرائيل ووجودها على الأراضي العربية.
ففي حوارٍ للأمير مع مجلة «The Atlantic» الأمريكية، نُشِر في الثاني من أبريل / نيسان الماضي أيضًا، قال ابن سلمان إنه ليس هناك أي “اعتراض ديني” على وجود دولة إسرائيل.
وقال نصًّا: «أعتقد أن لكل شعب في أي مكان كان الحق في أن يعيش في وطنه بسلام، وأعتقد أن للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي الحق في أن تكون لكل منهما أرضه».
وأضاف: «سيكون هناك الكثير من المصالح بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي، وإسرائيل اقتصاد كبير مقارنةً بحجمها، واقتصادها ينمو بقوة».
متابعًا: «بالطبع هناك الكثير من المصالح التي نتقاسمها مع إسرائيل، إذا كان هناك سلام فستكون هناك الكثير من المصالح بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي ودول أخرى مثل مصر والأردن».
آخذين بعين الاعتبار أن هذه التصريحات سواء التي أدلى بها للقناة العاشرة الإسرائيلية أو مجلة The Atlantic الأمريكية كانت في شهرٍ واحد فقط، ما بين الثاني من أبريل إلى التاسع والعشرين من أبريل، وهذا يُعطِي دلالةً كُبرى على التطور الذي حدث في عقيدة المملكة تجاه فلسطين وإسرائيل على حدٍ سواء. كما كانت التصريحات شديدة الصراحة والإعلان عن هذه الحالة والعقيدة الجديدة.
كما عبرت عن أولويات المملكة واهتماماتها، وأن قضية إيران هي التي تشغل بال المملكة وتُشكِل عداوتها السياسية الجديدة الخارجية.
الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الإسرائيلية، ياكوف كدمي، أكّد في تصريحاتٍ مع قناة روسيا اليوم، في منتصف أغسطس / آب لعام 2017، الاتصالات السعودية-الإسرائيلية قديمة جدًا، وأن حكومة تل أبيب تسعى بكل جهدها في أن لا يكون هناك هلال إيراني على أراضي العراق وسوريا بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية.
وأكد أن الدولتين تنسقان بشكلٍ سري، مشيرًا إلى أن معالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك يجب أن تتم «ليس في إطار المباحثات المعلنة ولكن عبر الزيارات السرية». وبالطبع هذا ما لا تحققه إسرائيل في حواراتها ومباحثاتها مع قادة الدول العربية والإسلامية، فسُرعان ما تُغيِر سياسة مباحثاتها من صفة السِرية إلى الجهر إمعانًا في إجبارهم على إكمال مسار المباحثات، وزيادةً في التنكيل بصورتهم ورمزيتهم أمام شعوبهم.
مسارًا طويلًا طفا على سطح الرؤية الحداثية 2030 التي تبناها محمد بن سلمان، فقد قامت صحيفة إيلاف السعودية بإجراء حوارين الأول مع رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي، جادي أيزينكوت، والثاني مع وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيجدور ليبرمان، كانا علامتين فارقتين على تعدي الإعلام السعودي الخطوط الحمراء التي كان يتراجع عنها أو يخشاها الإعلام العربي بمومه، كما كان الحواران يكشفان مدى تطبيع العلاقات بين المملكة والكيان.
والجِراب ما زال يحوي الكثير حول قصص التقارب، وإرهاصاته التي كانت منذ عقود، وتحولاته التي كشفت الكثير عن درجة التطبيع، وتغيُر الرؤية السعودية والعربية بالعموم تجاه العلاقات مع إسرائيل، والوقوف بجوار القضية الفلسطينية.
إيران على الجسر
تغيُر اتجاه المملكة من القضية الفلسطينية من الإيجاب إلى السلب، أو من الاهتمام والأولوية إلى الذيل وعدم وضعها في الحُسبان، كان يهدُف إلى تعبئة وحشد كافة الجهود والقُوى التي تتملكها المملكة صوب قضية واحدة وهي الدخول في معركةٍ صِفرية مع إيران.
وهذا ما نحا بالمملكة إلى أن تشتبك مع إيران في كافة الدول التي تمتلك فيها نفوذ أو لديها تنظيمات وأذرع خاصة بها في هذه الدول، مثلما حدث في اليمن والعراق وسُورية ولُبنان والبحرين. كما دفع هذا أيضًّا السُعودية لئن تضع يدها في يد إسرائيل علانيةً ولا توارب هذا؛ محاولةً للحصول على دعمٍ إسرائيلي لها في عِراكها مع إيران، معرفة المملكة لقُوة إسرائيل، وهذا الأمر هو الذي ظهر في تصريحات محمد بن سلمان نفسه، كان دافعًا محفزًا لطلب العون والمدد منها، طالما أن العدو واحد والهدف واحد، وإيران هدفٌ لكُلٍ من السعودية وإسرائيل، وتدخل المملكة في تطبيقٍ تنفيذي للمثل القائل “عدو عدوي صديقي”.
المستغرَب أن السعودية فِعليًّا وعبر تحليلاتٍ مُوسَّعة وتحقيقاتٍ واستقصاءات لم تُحقِّق أي انتصار فِعلي على إيران في كافة الجبهات التي اشتملت على مواجهتهما، وقد أوردنا هذا في تقريرنا المُدوّن عبر هذا الرابط
وهذا كان أدعى بالمملكة أن تأخذ وقتًا طويلًا للتريث والتمهُل قبل الدخول في معركة أو نزاعٍ جديد لتقييم مُخرَجات النزاعات السابقة لتحديد الإيجابيات والمثالب التي اعترت قتالهما الدبلوماسي، والعسكري في بعض الأحيان كما حدث في اليمن.
الخسائر المتتالية التي لحقت بالمملكة، والتي تعيّها إدارة وسُلطات المملكة جيدًا، وأعظم دليل على هذا هو طلب العون والمساعدة من قِبل القوى التي تفوق إيران قُوةً بمراحل، وفي الوقت نفسه تقف على نفس الدرجة من العداوة مع إيران كما الحال من قِبل السعودية، وكانت هذه القُوى تتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، واللتان حرصت السعودية على الحصول على رضائهما.
ولكن إسرائيل لا تُقدِم شيئًا هِبةً أو دون مقابل قط، ومن ثمَّ فهي كانت تنتظر مقابلًا عالي الجودة والثمن في نفس الآن، ألا وهو تقديم السعودية لأوراق تجرُدها من القضية الفلسطينية بالكُلية، بل وإضافةً على هذا دعوة الفلسطينين إلى طاولة السلم قسرًا، بالإضافة إلى قضية “صفقة القرن” وموافقة السعودية عليها برفقة مِصر، كما أن إسرائيل أكدت أن قرار أن تكون القدس عاصمة إسرائيل، لم يخرج إلا عقب التشاور قُبيل هذا مع مِصر والسُعودية.
وقد وصلنا إلى النتيجة الأكيدة التي تُثبِت أن السعودية عبر فِعالها المناهضة للقضية الفلسطينية، وحُقوق الفلسطينين في استفلالهم وعدم اعترافهم بإسرائيل، قد أعطت لإيران كنزًا ثمينًا، وهديةً مُقدَّمةً على طبقٍ من ذهب، في الدخول إلى فلسطين، وزيادة نفوذها، وتدعيم الأواصر معها، وترسيخ انتماء واسع لها، من أوسع الأبواب، لاسيما أن إيران تلعب بصُورةٍ دائمة على وتر المقاومة وحركاتها، ومُعاداة إسرائيل والتي لا تُعطيها صفة الشرعية مُطلقًا وتُطلق عليها “الكيان الصهيوني”، سيُوسِّع هذا من سُلطان الجمهورية، وسيرفع من معدلات التمويل والدعم التي توجهها لحركات المقاومة، خصيصًا كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس.
كما أكدت إيران أكثر من مرة في تصريحات مسؤوليها ذِكر طرف من العلاقات المشبوهة التي تجمع قادة العرب، وبالأخص قادة الخليج مع إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية، وإحراج صورة هؤلاءالقادة أمام شعوبهم.
حتى أن جواد ظريف في شُباط / فبراير الماضي، حسبما نقلت وكالة تسنيم عنه، صرح قائلًا: «إن بعض دول المنطقة بعد الاتفاق النووي سارعت إلى كامب ديفيد، وقالت للغرب: لماذا تخليتم عنا فنحن من دونكم ليس لدينا أمن واستقلال، وعندما جاء ترامب إلى منطقتنا ورقص بالسيف مع أمراء هذه الدول، نسوا أنفسهم وشعروا بأنهم حصلوا على أمنٍ جديد، إننا نعيش في هكذا منطقة».
وهكذا ستستغل إيران الزخم الغاضب من قِبل الفلسطينين وحركات المقاومة صوب السعودية، وتعمل على توسيع ولائها في فلسطين، وتلعب على نفس الوتر الذي تتمرسه بقوة، وهذا في ظِل انفضاض الدول العربية عن المقاومة في فلسطين، وعن القضية برُمتها، ومن ثمَ فتوسع إيراني جديد، ويُصبح مقصود السعودية ارتد في صدرها، وأتى على عكس ما تمنته، فهل لم تكن تعِّي السعودية صنيع يديها؟، وهل تكون لديها اعتقاد بأنها ستُلحِق الأذى بإيران قبل أن تتمدد في دولٍ أكثر في المنطقة؟.
فماذا ستكشف الأيام القادمة؟ وهل شيدت السعودية جسرًا تعبر عليه إيران دون أن تقصد؟.
وما زال هذا الملف يأبى على الطوي. وسيمتد في تقاريرٍ أكثر.
المصادر