بدت إيران أرضًا مُحرَّمة لمن يحملون أكثر من جنسية، أو يجمعون بين الجنسية الإيرانيّة وأُخرى غيرها، وأصبح الدخول من مطار طهران أو الوُلوج إليه كمن يخطو بقدميه نحو الجحيم، فأصبحوا جميعًا أسفل مقصلة الاعتقال والأسر من قِبل السُلطات الأمنية الإيرانية، وعلى رأسها الحرس الثوري الإيراني، الذي اعتقل 6 أشخاص في الفترة من نهايات عام 2015 حتى منتصف عام 2016، وقد كان هذا هو العدد الأكبر كما أعزت بعض التقارير.
تتم ظروف الاعتقال في صُورٍ مشابهة نسبيًا ولا تكاد تختلف عن بعضها البعض، إذ يتم إلقاء القبض عليهم عند سفرهم من مطار طهران إلى الخارج، أو حينما يصلون من الخارج إلى داخل إيران، تليها عمليات مداهمة واسعة لمنازل هؤلاء والتحفظ على حاجياتهم، ثم فترة استجواب مُطوَّلة لا تخلو من التعذيب بشِقيهِ سواء النفسي أو البدني، ثم لائحة اتهام لا تخرج كثيرًا عن التآمر على النظام الحاكم، أو محاولة قلب النظام، أو الانخراط في أعمالٍ يُجرِّمها القانون الإيراني، أو مُخالِفةً للأعراف والتقاليد الإيرانية وما يستتبع هذا من تكدير الصفو والسِلم العاميين.
لماذا كل هذا؟
لا تعترف الحكومة الإيرانية بالجنسية المزدوجة، وهذا شيءٌ مُعقَّد؛ إذ يمنع هذا الأمر السفارات الغربية المعنية من رؤية الأفراد المعنيين الذين تم احتجازهم.
ولكن عدم الاعتراف هذا تأتّى عبر سببٍ هام وهو الذي غيّر مسار التركيبة السكانية للجمهورية الإيرانية بالكُلية؛ في تقرير منصة فاناك، فقد أُشيِر إلى أن الثورة الإسلامية عام 1979 والتي مهدت الطريق لإقامة الجمهورية الإسلامية، بالإضافة إلى الحرب المُستعِرة مع النظام البعثي في العراق، والتي استمرت من أيلول / سبتمبر 1980 حتى آب / أغسطس 1988، واستمرار عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في فترة ما بعد الحرب، كل هذه عوامل دفعت بهجرة الملايين من الإيرانيين إلى الغرب.
عُدَّ هذا بمثابة “الشتات الإيراني”، والذي انتثر في كلٍ من أوروبا الغربية، وأمريكا الشمالية. وبالتالي فقد اندمجت شريحة كبيرة من هذا المجتمع واستطاعوا التحصُل على جنسيات ثانية إما أوروبية، أو كندية، أو أمريكية، في أوقاتٍ لن يُكتَب لها السبيل لئن تُكرَّر، وكحال غيرهم في الشتات، حافظ أولئك الإيرانيون على معظم علاقاتهم بالعائلات والأشخاص في الديار. غير أن زيارة إيران لم تكن قضيةً جلية بالنسبة للعديد من الإيرانيين؛ إذ أن الموجة الأولى من النازحين والذين فروا من البلاد في أوائل الثمانينيات، لطالما كانت عودتهم إلى إيران هي للمستحيل أقرب منها إلى الإمكان، وعُدَّت حُلمًا بعيد المنال، إما بسبب صلاتهم بالنظام السابق أو بسبب أنشطتهم “المناهضة للثورة”.
إذًا لقد كان الهدف سياسيًّا بامتياز، فقد كان النظام الجديد أتى وهو مُحمَّل بأثقال بطش بهلوي بهم، والعسف بأحلامهم التغييرية، فأتى الثُوار الجُدُد على نفس العربة التي دهسهم بها بهلوي من قِبل، وقرروا الإرساء لأفكارهم والبطش بكل الذين كان لهم صِلات أو علاقات من قريب أو من بعيد بالنظام البائد.
حربٌ داخلية على أجساد أحلامهم
كانت الصراعات داخل إيران تُفضِي بنا إلى التسليم أن هُناك طرفين دومًا هُما سببا هذا الصراع، إنهم المحافظون والإصلاحيون -على الهامش: والذين إذا استمرت خلافاتهم وهي آخذةٌ في التصاعُد والحدية فسينهار المعبد فوق رأس الجميع ويتلاشى حكم ثورة الإسلام على حد زعم المحافظين- إذ كانت قضية مزدوجي الجنسية إحدى حلقات الصراع بين الغريمين التقليديين المتصارعين على سُدة حُكم البلاد.
إذ يُذكَر أنه عقب فوز الرئيس الإصلاحي، محمد خاتمي، بانتخابات عام 1997، فقد كان يعمل على تعبيد الأرض وتهيئتها لكثيرٍ من المواطنين مزدوجي الجنسية من أجل زيارة البلاد مُجددًا. ودعا علنًا إلى زيارة البلاد والاستثمار في اقتصادها النامي والذي يريد أن يقف على قائمتيه لتوهِّ.
ولكي يضمن خامنئي عدم إثارة البلبلة حوله، فقد عكف على أن تقم حكومته بتطبيع العلاقات مع الإيرانيين ذوي “الصفحة الجنائية السياسية البيضاء” من المقيمين في الغرب والذين لن ينخرطوا في أعمالٍ سياسية مستقبلًا، ولكن كان الراديكاليون من المحافظين له بالمرصاد، فقد لجأوا إلى اتخاذ خطواتٍ أخرى لتصعيب الوضع على حكومة خاتمي وبعض العائدين، وذلك لإيقاف انتصارات الإصلاحيين من التمدُد في جسد الدولة. ورُغم هذا فقد كانت حقبة خاتمي، بالنسبة للعديد من الإيرانيين المقيمين في الخارج، أسهل وقتٍ لزيارة البلاد دون الخوف من الاضطهاد.
ثم خلف خاتمي، المهندس والمحافظ المتشدِد، محمود أحمدي نجاد، والذي أحال الربيع الذي نثره خاتمي خريفًا، وغيّر الأوضاع بشكلٍ جذري، لاسيما عقب انتخابات عام 2009، والتي أسفرت عن مظاهرات الحركة الخضراء، وتلتها حملة قادها الحرس الثوري ضد المواطنين الإيرانيين من مزدوجي الجنسية. وقد تمثلت هذه الفترة بكثيرٍ من الحالات نظرًا للمتشددين الذين كانوا يسيطرون على مقاليد الأمور ويطبِّقون أچندتهم وأيديولوچيتهم الفكرية في الحكم.
ثم أتي إصلاحيٌ جديد، كان من الواضح أنه سيُبدِي أنه سيسير على درب سلفه محمد خاتمي، مع محاولة تلافي ما أُحيِط به من محاولات المحافظين، ومُبدِّدًا صفحة نجاد، بدأ روحاني في التواصل مع الشتات الإيراني. وكانت أول زيارةٍ له إلى نيويورك لمخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فقال لحشدٍ من الأميركيين الإيرانيين المتفائلين إنه سيُيسِر عليهم زيارة إيران، إذ قال وسط هذا الزخم: “هذا حقٌ لكل إيرانيّ، بأن يزور وطنه”، مضيفًا: “إذا ما كنت سأنقل رسالتكم إلى إيران، فهي: زيارة إيران حقنا الذي لا يقبل الجدل”.
وتأكيدًا لما قاله، ولبث الطمأنينة في أولئك الذين لا تستغيهم خطابات الديماجوجيين والشعبويين والحُشُود ويقلقون من العودة مرةً أخرى إلى إيران، فقد طلبت حكومة روحاني منهم -مزدوجي الجنسية القاطنين بخارج إيران- أن يتواصلوا مع السلطات عبر بريدٍ إلكترونيٍّ محدد، ليتم تقييم حالتهم من قِبل لجنة خاصة مؤلفة من ممثلين عن السلطة القضائية وقوات الأمن قبل وصولهم.
لقد كان أمرٌ مغايرًا للواقع، فقد أظهرت التقارير تعرُض أشخاصٍ للاعتقال أو تم مصادرة جوازات سفرهم بمجرد وصولهم. وهذا ما جعل العديد من الإيرانيين يتنجون عن الفكرة مجددًا، لا سيما أصحاب الملفات السياسية المثقلة، وذوي الصحيفة السوداء سياسيًّا.
وهذا ما كان يعزو بنا إلى التأكيد على أن ولاية روحاني الأولى،كانت تُركِز في المقام الأول، كما أشار تقرير فاناك، على التوصل إلى اتفاقٍ نووي. وهذا ما كان يجعله يُسرِع الخُطى ويفتح الطريق وسبيل وراء سبيل؛ لجعل الغرب يتقبل بقوة إبرام الاتفاق معه في ظل اتجاهه التحديثي. وفي أعقاب خطة العمل الشاملة المشتركة التي تم الاتفاق عليها رسميًا في يوليو / تموز 2015، فقد عادت أجواء التفاؤل والبِشر من جديد حول التقارب مع الولايات المتحدة، ومواصلة تطبيع العلاقات مع الغرب، فتخفيف حدة التوترات مع البلدان التي ترتبط بعلاقاتٍ سيئة مع إيران، يمكن أن يجعل حياة الإيرانيين الذين يعيشون في هذه البلدان أسهل بكثير.
لكن كأن شيئًا لم يكن، فنسبة لوكالة رويترز، فقد اعتقلت قوات الحرس الثوري الإيراني ما لا يقل عن30 مواطنًا من مزدوجي الجنسية، وُجِّهت لمعظمهم تهمة التجسس. مع الأخذ كما أسلفنا أننا نستطيع تقسيم ماهيّة فترة الاعتقال لمزدوجي الجنسية من قِبل النظام الإيراني إلى قسمين، القِسم الأول فيما قبل الاتفاق، وقد اشتملت هذه الفترة على اعتقال الإيرانيين الأمريكيين؛ من يجمعون بين الجنسيتين الأمريكية والإيرانية. ولكن اليوم وعقب حكم روحاني نفسه والذي فتح يديه بالأمس القريب، فقد كان القسم الثاني الذي تمثل في كون غالبية المعتقلين من الإيرانيين حاملي جوازات السفر الأوروبية أو التوسع عما كان مُحدَّد سلفًا من الاكتفاء بالأمريكيين. ففي شباط / فبراير 2018، كان 19 شخصًا على الأقل من أصل 30 شخصًا من المعتقلين من المواطنيين الأوروبيين.
لقد كان رقمًا كبيرًا عما كانت عليه الأوضاع قُبيل الاتفاق عام 2015، يٌبرِز أن إيران لم تكن صادقةً في مزاعمها، وأنها كانت ترتدي وجه الملائكية حتى تتحصل على ما تريد، ثم ما لبثت أن أظهرت وجهها الحقيقي مرةً أُخرى، كما تزعم بالأخص الولايات المتحدة الأمريكية. بالإضافة إلى تصعيد العقوبات من قِبل النظام الإيراني، حتى أن المعتقلين قد تلقوا أثناء فترة حبسهم تهديدات بإيصال عقوبتهم إلى حد الإعدام، ما لم تُذعِن دولهم لمطالب الجمهورية.
#نستكمل الجزء القادم.