تطرح تداعيات الأحداث التي تفرض نفسها على حياة مُزدوِجي الجنسية بالكُلية في إيران، وعن حقيقة ما يلحق بهم ويؤثر على وجودهم في جمهورية نظام الثورة، أسئلة كثيرة لا نهاية لها. كما تُدخِلنا أو تأخذ بيدنا في عملية تحليل لحياة العديد من الفئات ذات الأقلية السُكانية داخل الجمهورية التي يحكمها نظامٌ يحكم هنا منذ قُرابة أربعة عقود.
دائرةُ فضفاضة تسع في حلقاتها كل الاستفسارات والأسئلة التي تُشعِرنا بمدى وُعورة وعُسر الوصول إلى المعلومة في القرن الواحد والعشرين، في دولةٍ لا تنطق أبواقها إلا بأصواتها. تضع هذه القضية تأطيرًا لما بعدها وسواها من صنائعٍ وقضايا لا يُعلَم إذا ما كانت هذه نابعة من إطار هُوية النظام الثورية أم مكايدات ومناكفاتٍ سياسية ترقى لحد تطويع آلياتٍ وأدواتٍ لتفعيلها؟. وهذا هو مَناط التحقيق.
مزدوجو الجنسية على المذبح
في الثالث عشر من شهر آذار / مارس الماضي، نشر معهد الشرق الأوسط في واشنطن، تقريرًا يُلقِي كمًا كبيرًا من الضوء على قضية مزدوجي الجنسية ومعاناتهم في الفترة الحالية في إيران.
فجر المعهد القضية على إثر وفاة عالم البيئة الكندي من أصل إيراني، كاووس سيد إمامي، في سجن إيفين، في شباط / فبراير الماضي. وأشار التقرير أن إمامي واحد من عشرات الإيرانيين مزدوجي الجنسية الذين اعتُقِلوا في الآونة الأخيرة، بتهمٍ تتعلق غالبيتها في التآمر لإطاحة النظام، والتجسس لصالح دولة أجنبية.
وحالة إمامي لم تكن الأولى ولن تكن الأخيرة، فلدى إيران تاريخٌ طويل من الاعتقالات والعسف بمزدوجي الجنسية والإطاحة باستقرارهم في أراضي الجمهورية.
وقد سبق إمامي في مقتله، المصورة الإيرانية ذات الأصول الكندية، زهرة كاظمي، والتي لاقت مصرعها في ذات السجن، عام 2003، عقب اعتقالها بسبب قيامها بتصوير أقارب المعقلين خارج سجن إيفين في طهران، وفجّرت قضية مقتلها جدلًا كبيرًا، إذ لم تُقدَم رسميًّا ضدها أي تهمة رُغم توفيها في الحجز بعد أقل من شهر على اعتقالها.
ولما قد أشارت التقارير الرسمية الإيرانية إلى أنها قد توفيت نتيجة إصابتها بالسكتة الدماغية، ولكن تحقيقًا لاحقًا كشف عن هجومٍ خارجي تمثل في ضربها على رأسها مما أفضى إلى موتها. وقد بُرئِت ساحة عضو في الاستخبارات الإيرانية اتُهم بضربها حتى الموت في عام 2004. وقد دُفنِت جثتها بسرعة بعد موتها دون إجراء تشريح لاحق لها لبحث أسباب الوفاة الخاصة بها.
وقد حاول ابنها، ستيفان هاشمي، عبر القضاء الكندي، مقاضاة الحكومة الإيرانية، ومطالبتها بمبلغ 17 مليون دولار كندي كتعويضات عن فترة اعتقالها وتعذيبها وموتها. ولكن إيران ذكرت إنه لايمكن مقاضاتها بسبب الحصانة القانونية التي يعطيها القانون الكندي للحكومات الأجنبية على التراب الكندي.
كما تضع حال سارة بهرامي، الهولندية ذات الأصول الإيرانية، والتي اعتُقِلت عام 2009، وتم إعدامها لاحقًا عام 2011، وكانت تهمتها تتعلق بتهريب المخدرات، الأمر برُمته حيال التشكيك وإثارة الأسئلة، وهذا ما ترسخ لدى الحكومة الهولندية آنذاك، إذ أن المسؤولين الإيرانيين أنفسهم صرحوا أن عملية اعتقالها تمت عقب مشاركتها في تظاهرة مناهضة للحكومة.
ولكن مكتب المُدعِي العام في طهران، صرّح أن السُلطات عثرت على 450 جرام من الكوكايين، و420 جرام من نبتة الأفيون من منزلها، وتم اتهامها أنها كانت عضوًا في عصابة دولية للمخدرات وقامت بتهريب الكوكايين إلى البلاد باستخدام صلاتها الهولندية.
ولكن ابنتها نفت هذه الاتهامات بالكُلية، وقالت أنها مُلقَّقة، حتى أنها صرحت أنها حتى لا تُخِّن السجائر، فكيف الحال إذن بامتلاك المخدرات؟!. وقد حُرِم المسؤولون الهولنديون من الاتصال بها، أو معرقة مُجريات القضية.
وكانت هذه القضية فتحت الباب لما ورائها من حالات الاعتقال والاضطهاد التي يتعرض للها مزدوجو الجنسية في إيران من عسفٍ وتنكيل.
قد تكون حالات القتل التي لم تعد سوى ثلاث حالات ليست دليلًا من الممكن إسقاطه على التعامل العنيف من قِبل النظام الإيراني مع مزدوجي الجنسية، ولكن حالات الاعتقال المكثَّفة التي شهدتها أوساط مزدوجي الجنسية لاسيما في الفترة الأخيرة أظهرت بالجرم المشهود كيف أصبح بقاء مزدوجي الجنسية في إيران يجلب لهم الويلات.
كما أن لهذه الحالات أدوات ومحددات حاكمة وضابطة لها مثل، كون هذه الاعتقالات ليست كلها تظهر للعلن أو يتم البوح بها من قِبل عائلات المعتقلين مخافةً تداعيات البطش من قِبل النظام الإيراني، أو أيضًا غالبية اعتقال بني جنسيةٍ ما فترةً من الفترات كما حدث مع الإيرانيين الأمريكيين، الذين طالتهم يد النظام بصورةٍ شبه دائمة وكانت تُستخدَم بصورةٍ تحمل معاني المساومة أو مقايضة الأسرى.
حتى أن إيران قصّت شريط ثورتها، وتأسيس جمهوريتها الإسلامية، عبر أشهر حادثة والتي تمثلت في احتجاز 52 من العاملين في السفارة الأمريكية، في طهران، عام 1979، كرهائن؛ واستمرت مدة الاحتجاز 444 يومًا.
من بين أشهر القضايا في السنوات الأخيرة كانت قضية جايسون رضائيان، وهو صحفي إيراني أمريكي، يعمل في جريدة الواشنطن بوست، وقد احتُجِز كرهينة، وفقًا لمحاميه، لانتزاع تنازلاتٍ خلال المحادثات مع الولايات الأمريكية المتحدة فيما يخص البرنامج النووي الإيراني.
وقد أُطلِق سراحه في كانون الثاني/ يناير 2016، إثر تفاوض مباشر مع الأميركيين أفضى إلى إعادة 400 مليون دولار من أصل 1.7 مليار طالبت بها إيران، وهذا ما يُنبئنا عن هدفٍ آخر كانت تسعى إليه إيران آنذاك ألا وهو الحصول على الأموال المجمدة خاصتها من البنوك الأميركية.
هوما هودفار، أستاذة علم الأنثروبولوچياوعلم الاجتماع بجامعة كونكورديا، في مونتريال، وهي كنديةٌ من أصلٍ إيرانيّ كما أنها تحمل أيضًا الجنسية الإيرلندية، تم احتجازها عام 2016، بسجن إيفين لمدة أربعة أشهر، عقب مداهمة سُلطات الأمن الإيراني لبيت عائلتها، واستولوا على جواز سفرها وهاتفها النقال وكُتُبها وحاسوبها المحمول.
قالت هودفار آنذاك أنها تعرضت لـ”استجواباتٍ وحشية وتعذيبٍ نفسي”، وقد وُجِّه لها حينها اتهامات تتعلق “بالانتماء لحركةٍ نسوية”، والانخراط في نشاطاتٍ لمناصرة قضايا المرأة، والانضمام لشبكةٍ تضم أعضاء من النساء والمنظمات المهتمة بالدفاع عن حقوق المرأة والأنشطة الأكاديمية.
حتى إنها ذكرت إن موت إمامي أعاد لها ذكريات مريرة. وقالت:”يمكنني أن أتخيل ما مر به إمامي خلال الأسبوع الأول في سجن إيفين، إنه جحيم على الأرض”.
وقد ذكرت هودفار في تقرير معهد الشرق الأوسط، أنها لا تستطيع العودة إلى إيران لأن التهم الموجهة لها لا تزال قائمة، معربةً عن أسفها لتعرض الإيرانيين من حاملي الجنسية المزدوجة للحبس والقتل في الجمهورية الإسلامية، على الرغم من كونهم الأقدر على إقامة جسر على هُوة الخلاف مع الغرب.
كما تؤكد هوفار قائلةً: “أريد أن أفخر بجنسيتيَّ ومواصلة العمل لدمج ثقافيتن مختلفيتن”، لكنها ترى أن النظام “يريد خلق جو من الخوف” بعد احتجاجات كانون الأول/ ديسمبر 2017.
نازانين زاجاري راتكليف، البريطانية ذات الأصول الإيرانية، والعاملة في مؤسسة تومسون رويترز؛ وهي مؤسسة للأنشطة الخيرية مستقلة عن شركة تومسون رويترز وتعمل بشكل مستقل عن وكالة رويترز للأنباء. وكانت قد اعتُقِلت في نيسان / أبريل 2016، من مطار طهران، عندما كانت مسافرة مع ابنتها ذات العامين، وُجِهت إليها تهمة “التآمر للإطاحة بالنظام الإيراني وقلب نظام الحكم”.
رُغم أن الرئيسة التنفيذية للمؤسسة، مونيك فيلا، قالت آنذاك، إن زاجاري راتكليف لم تُجِر أي تعاملات في إيران بصفتها المهنية. وزوجها ريتشارد راتكليف وصّف هذا الاتهام بأنه “غير معقول”.
ولكن في أواخر حزيران / يونيو 2016، طرح المحقق الرئيسي مع زاجاري راتكليف اقتراحًا غريبًا، وهو أن على زوجها أن يضغط على الحكومة البريطانية للتوصل إلى اتفاق، مقابل حفظ القضية قبل وصولها إلى المحكمة، وقال راتكليف لرويترز إن المحقق لم يذكر أي تفاصيل أخرى عما سينطوي عليه الاتفاق.
وقال زوجها آنذاك إنه نقل الاقتراح إلى وزارة الخارجية البريطانية، وقد قِيل له إن الوزارة ليست لديها أية معلومات عن أي اتفاق مع إيران.
ولكن حُكِم على نازانين في العاشر من سبتمبر / أيلول لعام 2016، بالسجن لمدة خمس سنوات.
أحمد رضا جلالي، العالم والبروفيسور والطبيب في جامعة بروكسيل الحرة، الإيراني المُقيِم في الأراضي السويدية، من المُزمَع أن يلاقي مصيرًا مشابهًا لكاووس إمامي وزهرة كاظمي، فقد حُكِم عليه بالإعدام في 24 تشرين الثاني / أكتوبر 2016، بعدما تم اعتقاله في نيسان / أبريل عام 2016 من قلب طهران التي كان يزورها لحضور مؤتمر أو كما ذكرت الإندبندنت البريطانية، بأنه كان في زيارةٍ لأسرته، وكانت تهمته “التجسس لصالح إسرائيل”.
أو كما قالت أو ذكرت المحكمة اطلاع ضباط استخبارات الموساد على عناوين وبعض المعلومات الشخصية لثلاثين من الأفراد البارزين العاملين في المشاريع البحثية والعسكرية والنووية ومن ضمنهم مجيد شهرياري، وعلي محمدي ما أدى إلى اغتيالهم.
أي أنه من العسير أن يتم تحفيف الحكم عنه، رُغم الدعوات التي لا تتوقف من جميع أنحاء العالم مطالبةً السُلطات الإيرانية بإطلاق سراح رضا. كان من أبرزها الدعوة التي وجّهها 75 من حاملي جائزة نوبل، للحكومة الإيرانية لإطلاق سراحه قُبيل تنفيذ الحكم فيه.
كما أُطلِقت عريضة عقب اعتقاله وقّع ليها عشرات الآلاف من جميع أنحاء العالم مطالبين بإطلاق سراحه. جدير بالذكر أن عائلة جلالي وزملائه التزموا الصمت حول أنباء اعتقاله في محاولةٍ لتجنب تفاقم الوضع.
#نستكمل في الجزء القادم.