لوفير بلوج
في مارس قبل سبع سنوات سقطت سوريا في فوضى عارمة حين قرر بشار الأسد سحق الاحتجاجات العامة التي خرجت ضد حكمه. وبسرعة، وقفت إيران بجوار الديكتاتور الأسد، وقدمت له المساعدات سرًا.
بحلول عام 2014، كان وجود إيران في سوريا لا يخفى على أحد، وخاصة دور الحرس الثوري. ومنذ ذلك الحين، خصصت طهران المال والقوات لدعم الأسد عسكريًا، وكذلك دعمه سياسياً على المنصة الدولية – حتى عندما انتقد المجتمع الدولي الأعمال الوحشية الجماعية، بما في ذلك استخدامه الأسلحة .
وعلى الرغم من أن الحجم الحقيقي للمشاركة الإيرانية في سوريا يبقى محل نزاع، إلا أن التقديرات تشير إلى نشرها لآلاف الجنود في البلاد، وعشرات المستشارين العسكريين، وملايين (وربما حتى مليارات) الدولارات لحماية حكم الأسد. لكن رغم كل هذه التكلفة إلا أن إيران بدأت اليوم في جني ثمار ما دفعت.
في بداية الصراع السوري ترددت إيران في إعلان مشاركتها فيه، فقبل عامين فقط من بدء الصراع، واجهت إيران مشاكلها الخاصة، ففي صيف 2009 فاز محمود أحمدي نجاد لفترة حكم ثانية، مثيرًا الشكوك حول مصداقية الإنتخابات، فنجاد لم يكن ذا شعبية كبيرة، فحدثت احتجاجات “الحركة الخضراء” واسعة النطاق، والتي طالبت بإعادة فرز الأصوات. ولم يتوان النظام عن سحقها بسرعة وفاعلية –إلى حد ما-. في 2010، عندما بدأ الربيع العربي، راقب الإيرانيون ديكتاتوري العرب يسقطون واحدًا تلو الآخر. ولكن بعد ذلك أخذ الربيع العربي منعطفًا حادًا حين سقطتْ سوريا في الفوضى. وروع الإيرانيون حين بدأ الأسد في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه في ديسمبر 2012، خاصة بعد مرورهم بالأمر ذاته وقت الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988). وبناء على ما سبق، قررت إيران التكتم على مشاركتها في الصراع.
ومع صعود الدولة الإسلامية في عراق وسوريا المعروفة باسم داعش في 2014، تغيرت وجهة نظر الإيرانيين للصراع، ففي صيف العام ذاته شاهد الإيرانيون داعش وهي تعلن عن قيام “الخلافة الإسلامية” في العراق المجاورة. وقلقت إيران من قوة عدائية أخرى كتلك التي تواجدت مع حكم صدام حسين، بالإضافة أيضًا إلى أن داعش تناهض الشيعة وإيران. وهكذا فقد وجدت طهران أنه من المناسب والضروري أن تكثف تواجدها في كلا البلدين وتعلن ذلك بشكل صريح.
لكن سرعان ما بدأ القتلى يتساقطون في صفوف الإيرانيين، فانضم الحرس الثوري إلى جيش الجمهورية الإسلامية. وبعدها نشرت إيران ميليشيات شيعية في سوريا، كـ “لواء فاطميون” الأفغاني و”لواء زينبيون” الباكستاني. الأمر الذي بدا في البداية وكأنه تدخل إيراني لمساندة حليفها، تحول سريعًا إلى نزاعًا مدنيًا، متسببة في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم. على هذه الخلفية، قدم وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، “خطته المكونة من أربع نقاط” لإنهاء الحرب الأهلية السورية. وكان “جوهر” الخطة، على حد تعبيره، هو “حكومة وحدة وطنية، وقف إطلاق النار، محاربة الإرهاب، الإصلاح الدستوري، وإنشاء حكومة قائمة على النظم الدستورية الجديدة”. وبعيدًا عما يلعن، لم يكن النظام الإيراني مناصر للأسد لشخصه، لكن لأن النظام لم ير بديلًا جيدًا له، ورأوا أنه الشيء الوحيد الذي يقف بين المنطقة والمزيد من الفوضى.
لكن بينما إيران تكتسب تفوقًا في ساحة المعركة، فقد بدأت في دفع تكاليف أكثر لتدخلها هناك. فمحليًا، اختلف الشعب الإيراني والعاملين مع النظام على تواجد بلدهم في سوريا، هم مدركون للأهمية الشديدة لاحتواء داعش، لكنهم رأوا الأسد مجرمًا، شردت قواته وقتلت وجرحت مئات الآلاف. بجانب ارتفاع أعداد القتلى في صفوف الحرس الثوري والجيش الإيراني.
في الوقت نفسه الذي كافحت البلاد للاستفادة الاقتصادية من الاتفاقية النووية، وما تلاها من رفع للعقوبات، كانت تكرس ملايين الدولارات لمساندة الأسد وقواته بالأموال والمستشاريين والأسلحة والمعدات.
وعالميًا، رأي الكثير أن طهران تساند ديكتاتورًا وحشيًا، والذي لولا المساندة الإيرانية لسقط سريعًا. بجانب أن الدعم الإيراني للأسد عكس طائفية إيران، مما شوه صورتها في الشارع العربي، وزاد من خوف الحكومات المجاورة منها. وزادت الأمور سوءًا عندما تدخلت موسكو، والتي وفرت غطاءً جويًا للقوات البرية السورية والإيرانية. والمسؤولين الروس رغم هذا التعاون،فلم يتوانوا في بعض الأحيان عن العمل ضد طهران، خاصة حين قامت روسيا بإعلان استخدامها لقاعدة جوية إيرانية بغرض التزويد بالوقود، مثيرة ذلك التصريح الجدل، حيث أن الأمر يعتبر بالنسبة للكثيرين مناقض للدستور الإيراني.
غير الصراعات الأخرى الأقليمية التي عقدت الوضع أكثر، كاتساع الخلاف بين إيران والسعودية عام 2016، عندما قطعت كلا البلدين العلاقات فيما بينهما بعد هجوم على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران.
ولم تتوقع الجمهورية الإسلامية عندما تدخلت في الصراع السوري أنه سيدوم لسبع سنوات، سيحافظ فيها الأسد على تواجده. وفي منتصف الحرب، أشارت إيران إلى أنها ربما على استعداد لإسقاط الأسد، لوجود صديق آخر لها في دمشق، لكنها سريعًا ما غيرت من رغبتها، عندما أصبح واضحًا أن المجتمع الدولي، -وبشكل رئيسي- الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، على استعداد للتعايش مع الأسد ضمنيًا على الأقل.
واليوم، ترى إيران نهاية آتية في سوريا، ورغم أنها دفعت ثمنًا باهظًا لمشاركتها في هذا الصراع، إلا أنها الآن قد بدأت ترى جهودها تؤتي ثمارها.
فأولًا، اكتسب الجيش الإيراني خبرة كبيرة في ميدان المعركة، وأصبحت قواته المسلحة أكثر تماسكًا. ولكن هذه الخبرة لا تقتصر فقط على القوات الإيرانية، بل أيضًا على المليشيات التي نشرتها إيران من الفاطميون والزينبيون. التي تستطيع إيران الآن إعادة توجيه مقاتليها المدربين وذوي الخبرة إلى أي ساحة أخري تريدها، بما في ذلك، أفغانستان واليمن –أو ربما يكون قد بدأ الأمر فعلًا-.
ثانيًا: تمكنت إيران من إبراز قوتها، بما يتجاوز إمكانياتها، من خلال نشرها الاستراتيجي للمليشيات في سوريا. وبينما لا تمتلك البلاد مقعدًا في مجلس الأمن، أو ترسانة نووية، أو قدرات عسكرية قادرة على تحدي القوى العالمية، فقد أكدت إيران أنها قوى إقليمية لا يستهان بها.
ثالثًا: إيران زادت من عمقها الاستراتيجي، وأعادت الحياة لحليفها الأساسي؛ حزب الله. قدرة حزب الله على الحفاظ على معقله في لبنان وازدهاره، ضرورة للجمهورية الإسلامية، نظرًا لامتلاكه طرقًا عديدة لمساعدة إيران لزيادة عمقها الاستراتيجي، وتوفيره مزايا استخباراتية واستخباراتية مضادة –مكافحة التجسس-. بجانب مساعدته لإيران في إظهار قوتها، وتوفير قوة رادعة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.
وانطلاقًا من وضعها في سوريا، ووكيلها اللبناني، أصبحت إيران قادرة على ردع أحد خصومها الأساسيين في المنطقة؛ إسرائيل، وعلى أراضيها، بالإضافة إلى أن الجانب الإسرائيلي يفتقد مثل هذا العمق الاستراتيجي في المنطقة، وكذلك موقف إيران المناهض لإسرائيل، وتزايد قوتها الصاروخية، ودعمها للجماعات الإرهابية التي تستهدف الإسرائيلين . كل هذا يزيد من مخاوف إسرائيل بشأن التواجد الإيراني وقدراتها المتزايدة على حدودها.
رابعًا: تمكنت إيران من احتواء داعش في سوريا، مما سمح لها بتقليل خطر الجماعة الإرهابية على أراضيها وشعبها.
وهناك فائدة كبرى أخرى لإيران من الصراع السوري التي ربما لم تتحقق بعد. فبعدما رأت طهران الرئيس ترامب وهو يطعن الاتفاقية النووية، وإحباطها ببطء وتيرة الانتعاش الاقتصادي بعد رفع العقوبات، حولت إيران اهتمامها بشكل متزايد إلى دول الجوار من أجل الاستثمار والتجارة. وفي حين أن سوريا التي دمرتها الحرب لا تبدو الآن واعدةً اقتصاديًا، إلا أن إيران تمهد السبل من أجل زيادة تعاونها مع دمشق.
في الأشهر الأخيرة، بدأ المسؤولون الإيرانيون والمجتمع المدني في تقييم دورهم في خطط إعادة تعميير سوريا. فبعض الشركات الإيرانية قد حظت بالأولوية في هذه الخطط قبل أي شركات أخرى. والأهم، أن الحرس الثوري سوف يواصل مشاركته في قطاعات الأمن السورية، مع أخبار عن تعاقدهم بالفعل مع الأسد.
إيران الآن مشتركة في إعادة بناء البنية التحتية لسوريا، بما في ذلك قطاع الطاقة. نظرًا لتواجد الحرس الثوري في سوريا، وخبرتهم في قطاعي النفط والغاز في إيران، فبالطبع سيكونون هم المرشحون الطبيعيون لتنفيذ هذه الخطط.
لكن بالعودة للشأن الداخلي الإيراني، فإن الحكومة تسعى لتقليص أنشطة الحرس الثوري الاقتصادية، لذا كخطوة طبيعية، قد يتجه الحرس للاستثمار الخارجي. بجانب وجود محادثات حول مشاريع للنقل مشتركة ما بين طهران ودمشق، من شأنها تسهيل التجارة الثنائية.
وتأمل إيران إلى أن تصبح مصدرًا رئيسيًا للسلع في سوريا. ويتطلع الإيرانيون إلى المساهمة في قطاعي التعليم والصحة باعتبارهما أكثر مجالين محتملين لشراكة مستقبلية.
وأخيرًا، تأمل الجمهورية الإسلامية أن تصبح موردًا رئيسيًا للأسلحة في المنطقة، وسوريا سوق طبيعي لأسلحتها ومعداتها الدفاعية.
ومنذ بدأ النزاع السوري، تناقش المحللون حول ضرورة أن تقوض الولايات المتحدة وحلفاؤها التواجد الإيراني في تلك المنطقة. لكن مع استمرار الصراع واستمرار الأسد في مكانه، عززت طهران موقفها هناك. واليوم، من المستحيل تقريبًا تخيل إعادة إعمار سوريا بدون التدخل الإيراني –وطهران تحرص على تأكيد أنه لا غنى عنها_.
وينتج عن جهود طهران لتعزيز دورها في سوريا تداعيات إقليمية، فالوجود الإيراني المستمر بالقرب من إسرائيل والتوترات ما بين القدس وطهران تجعل من المحتمل حدوث تصعيد بين القوتين الشرق أوسطيتين. وكانت كل السياسات التي قدمتها إدارة ترامب وتابعتها لن تؤدي إلا إلى تقوية تواجد إيران في سوريا. فمن ناحية، المزيد من الهجمات الموجهة لضرب سوريا دون سياسة واضحة، سوف تؤدي إلى تصعيد النزاع، والسماح لطهران بمزيد من المبررات لتواجدها في الساحة. وسوف أيضًا تؤدي إلى تقريب إيران وروسيا معًا، وإجبارهما على وضع خلافاتهما بشأن العمليات العسكرية جانبًا، للتصدي لخصم مشترك، وهو الولايات المتحدة.
ومن ناحية أخرى، إذا قام ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا، فإن إيران ستنعم بحريتها في البلد، وستكون قادرة على المضي قدمًا في خطط إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع.
فبدلًا من ذلك، على الولايات المتحدة وضع سياسة شاملة تأخذ الأنشطة الإيرانية في سوريا في الحسبان. ويجب أن تشتمل هذه السياسة على منهج متعدد المستويات، يتضمن احتواء إيران وروسيا في سوريا، ويتصدى لخطر داعش، ويشرك أصحاب المصالح الرئيسيين من خلال عملية متعددة الأطراف بدلَا من التصرفات الفردية التي تقوم بها الولايات المتحدة.