استعرضنا في الأجزاء السابقة قصةً طويلة من الأحداث -وما زلنا- أزلنا الغطاء فيها عن كثيرٍ من الأخبار والرؤى والوجهات والقضايا التي تنطوي أسفل إسقاط الطائرة المقاتلة الإسرائيلية، واختراق الدرون الإيرانية لأجواء الجولان، والهجوم الجوي الواسع الذي قصف به سلاح الجو الإسرائيلي أهدافًا إسرائيلية وإيرانية.
حاولنا قدر الإمكان أن نوضح عبره، ونفض الاشتباك الحادث في أوراق هذه القضية شديدة التعقيد، والتي تنبري لها مراكز بحثية ومحللوان وخبراء استراتيچيون لتفسيرها والوقوف منها موقف التحليل والإيضاح.
استعرضنا خلالها التراشق الكلامي وحرب الدبلوماسية شديدة الوطأة بين إيران وإسرائيل، وأيضًا أوجدنا تحليلًا عسكريًا مبسطًا للطائرتين الدرون والإف 16اللتين أسقطتا، والصاروخ S200 الذي أسقط المقاتلة الإسرائيلية، وعرضنا في تقريرين متعاقبين الورقة الروسية وتأثيرها، وماهية معرفة روسيا بما حدث قبل أن يقع من قبل الطرف الإسرائيلي، وحللنا أيضًا رواية الخلاف الذي طفا على السطح بين إيران وروسيا بسبب فعل إسرائيل.
ولكننا نستعرض في هذا الجزء قضية تداعيات الحادث على البلدان المجاورة وعلى إسرائيل نفسها، وعلى الذين أدرجوا في الصراع القائم وسيلقي هذا بظلال النار عليهم وينصهروا في بوتقتها.
فقد لفحت نيران الصراع الإيراني الإسرائيلي وجوه دولتي لبنان وفلسطين، وقد أثرت عليهما تأثيرًا شديدًا، وقد استغلت إسرائيل هذا الزخم والخضم في إدخال جماعة حزب الله، وحكومة لبنان، وكتائب عز الدين القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية حماس.
لبنـــان وحزب الله
إسرائيل، وكما ذكرنا في الأجزاء السابقة ضمن سياق التقارير، تعلم أن أحد جيرانها هو حزب الله، تلك الجماعة المسلحة التي خاضت ضدها حروب عاتية تكبدت إسرائيل فيها خسائر فادحة جعلها تعيد استراتيچيتها تجاهها وتنتظر أو تتحين الوقت اللازم لئن توجه لها ضربةً قاصمة تنهي فيها التنظيم وجنوده الواقفين على الحدود إلى لا رجعة.
حزب الله خرج سريعًا عقب إسقاط الطائرة الإسرائيلية غبطانًا بهذا الفعل، وأصدر بيانًا عبر فيه إن إسقاط المقاتلة يمثل مرحلةً استراتيچيةً جديدة في الصراع، مضيفًا أن تطورات هذا اليوم حينذاك تعني بشكلٍ قاطع سقوط المعادلات القديمة.
وكأن حزب الله يريد أن يطوي صفحة المهادنات السالفة، وإعلان وضعٍ جديدٍ تصبح اللهجة الذائعة فيه هي لغة النار والرصاص.
وقد شن الإعلام الحربي لحزب الله هجومًا غير مباشر يشير إلى بيانه هذا، تنقل وكالة “سبوتنيك”، أنه قد برزت في الفترة الأخيرة معادلة “الإعلام المقاوم”، حيث يقوم الإعلام المركزي التابع لحزب الله بنشر رسائل عبر تطبيق “الواتس آب”، ووسائل التواصل الاجتماعي، باتت تقلق إسرائيل وقياداتها.
إذ أشار الإعلام الحربي إلى قضية “بلوك الغاز رقم 9 ” الواقع في المياه الإقليمية اللبنانية، والذي تنوي إسرائيل وضع يدها عليه شأنه شأن العديد من الآبار الواقعة في شرق المتوسط التي وضعت إسرائيل يدها عليها بالقوة غير عابئةٍ بأية اتفاقيات أو حدود. ونشر إعلام حزب الله عدة صور تظهر رسالتهم تجاه إسرائيل حول أحقية ملكية لبنان في هذا البلوك.
وكانت تحت عنوان “أيها الصهاينة ستمس منشآتكم”، عرض فيها مشاهد لمنشآتٍ نفطية تديرها إسرائيل في مياه البحر المتوسط، يتخللها مشاهد لصواريخ أرض بحر يمتلكها الحزب، في إشارةٍ إلى قدرته على استهدافها.
لبيرمان وصف، نهاية الشهر الماضي، إعلان لبنان مناقصة بشأن بلوك الغاز رقم 9 بـ”تحدٍ سافر وتصرفٍ استفزازي يخالف جميع القواعد والبروتوكولات”، معتبرًا أن البلوك ملكيته لإسرائيل وليس للبنان. لاقى هذا ردا من قبل الرئيس اللبناني، ميشال عون، الذي اعتبر أن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، حول “بلوك 9” للغاز في البحر المتوسط تهديد للبنان، وسيادته على مياهه الإقليمية.
محلل الشؤون العربية في القناة العبرية، تسفي يحزكيلي، ذكر أنه من الممكن أن تتكبد إسرائيل ثمنًا باهظًا في حربها لحزب الله عقب التطور الذي حققوه في مجال إعلام الواقع الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي. وهو ما علق عليه أحد المحللين من المعلقين الإسرائيليين أنه سيكون من الصعب على إسرائيل التغلب على حزب الله، وتحقيق صورة النصر.
وقد نقلت هيئة الإذاعة الإسرائيلية الرسمية، عن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، غلعاد أردان، قوله، خلال مؤتمر الجاليات اليهودية في أمريكا الشمالية، الذي عقد في القدس الغربية، إن “حزب الله هو عنصر رئيسي في حكومة بيروت”، ومن ثم خلص إلى أن لبنان إجمالًا سيصبح مسؤولًا عن أي اعتداء يشنه حزب الله في إسرائيل، وأن إسرائيل ستعمل كل ما هو ضروري لحماية مصالحها.
إسرائيل -نقلًا عن واشنطن بوست- وجهت العديد من الضربات الجوية إلى قوافل حزب الله في سورية، والتي كانت في نطاق السرية ولم تحظ بتغطيةٍ إعلامية.
وذكر أن إسرائيل اعترضت على اتفاق وقف إطلاق نار جزئي برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، في عام 2017، بحجة أنه يسمح بمزيد من التوسع الإيراني في المنطقة، والذي يتم عبر ذراعه اللبناني، حزب الله، وأنه -حزب الله- يستخدم القتال في سورية كساحاتٍ للتدريب والقتال وتجربة آخر معداته وأسلحته لاسيما الصواريخ التي تزودهم إيران بها.
أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، أعلن صراحةً عن قلقه قاصدًا بقلقه قلق المجتمع الدولي برمته، عن احتمال وقوع مواجهةٍ مباشرةٍ بين إسرائيل وحزب الله. وصرح قائلًا: “أسوأ كابوس قد يتحقق هو إذا حدثت مواجهة مباشرة بين إسرائيل وحزب الله؛ سيكون حجم الدمار في لبنان شديدًا بالتأكيد، لذا فإن هناك نقاط قلق كبيرة تحيط بالموقف”.
وصلت حدة الموقف إلى أن موقع “واشنطن فري بيكون” الأمريكي، نشر تقريرًا مفاده أن حزب الله سيصبح على استعداد شبه تام بتوجيه قرابة نصف مليون صاروخ إلى إسرائيل بحلول العام المقبل، مشيرًا أن حزب الله بالفعل نجح في نشر أكثر من 70 ألف صاروخ بعيد المدى عبر سورية ولبنان موجهةً إلى إسرائيل مهيأةً للانطلاق.
وقد أشار الموقع أن غرض حزب الله من ذلك هو تعسير المعركة إلى أقصى حد ممكن على سلاح الجو الإسرائيلي الذي سيضطر إلى قصف جبهاتٍ متعددة ورقعة شاسعة من قواعد الصواريخ.
ويأتي هذا في ظل ما ذكره موقع القناة السابعة الإسرائيلية، أن وزير المالية السابق وعضو الكنيست ورئيس حزب “يش عتيد”، يئير لبيد، توجه في زيارة عملٍ سياسية إلى بروكسل. مجريًا سلسلة لقاءات مع جهات في الاتحاد الأوروبي، من بينهم وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، وسفراء في الإتحاد، بهدف تحريضهم ضد حزب الله. في ظل حملة يقودها لبيد برفقة عضو الكونغرس الأمريكي، تاد دويتش، بهدف “إخراج حزب الله مع كل أذرعه” عن القانون، على حد تعبير موقع القناة.
لبيد قال ذات مرة: “لا يوجد فرق بين الذراع السياسي والذراع العسكري لحزب الله، هي المنظمة نفسها التي تقوم بتوجيه آلاف الصواريخ على إسرائيل بدعمٍ إيراني”.
هذا الاندفاع المتدفق لحزب الله جعل ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأمريكي،يصرح قائلًا: “يجب علينا الاعتراف أيضًا بالحقيقة القائلة إنهم -قاصدًا حزب الله- جزء من العملية السياسية في لبنان”، رغم أن واشنطن تعتبر حزب الله تنظيمًا إرهابيًا، وقد فرضت عليه عقوبات اقتصادية. ومن ورائه الموفد الأمريكي السفير، ديفيد ساترفيللد، في محاولاتٍ مستمرة لإيجاد حلٍ سياسي للنزاع الدائر بين لبنان وإسرائيل بخصوص الحدود وغاز البلوك رقم 9.
فلسطين وكتائب عز الدين القسام
بدت إسرائيل وكأنها تريد أن تعيد حرب الأيام الستة، ولكن بترتيباتٍ مختلفة وأزمنةٍ متفاوتة وأماكن متفرقة ومددٍ طويلة، ضربت إسرائيل واستغلت الأحداث وكان عين مقصودها في فلسطين غزة، وفي القلب منه كتائب عز الدين القسام، والتي تريد إسرائيل إشعال حربٍ معها؛ استغلالًا لكافة الفرص المتاَحة والأوضاع التي تعانيها حركة حماس، وكتائبها المسلحة لإنهاء هذا الصداع الذي يدور في رأس إسرائيل.
تقريبًا منذ إسقاط المقاتلة الإسرائيلية، ولاح الجو الإسرائيلي لا يريد أن يعود إلى مدارجه، وحلق فوق سماء غزة، مستهدفًا أراضٍ زراعية، ومنشآت، ومباني، وبالطبع مراكز تدريب ونقاط مراقبة وتحصينات تابعة لكتائب عز الدين القسام.
فجر 19 فبراير، وجه أكثر من عشرة صواريخ نحو أراضٍ زراعيةٍ فارغة في حي النهضة ومحيطها، ما تسبب في إلحاق أضرار ماديةٍ كبيرة دون الإبلاغ عن إصابات؛ ردًا على نيران أطلقت من القطع تجاه إسرائيل. بالإضافة إلى اللغم الأرضي الذي استهدف دوريةً عسكرية تابعة لجنود الجيش الإسرائيلي، وأوقع أربعة جنود مصابين.
فجر 18، ومساء 17 من شهر فبراير، شن الطيران الإسرائيلي سلسلة غارات استهدفت 18 موقعًا للمقاومة الفلسطينية في غزة، قتل على إثرها فلسطينيان. وردت الكتائب على الطيران عبر مضاداتها الأرضية.
وفي مطلع فبراير، قبيل الهجوم الجوي في سورية، قصفت مقاتلات حربية إسرائيلية، موقعًا عسكريًا يتبع لكتائب القسام، في قطاع غزة، دون وقوع إصابات.
يذكَر أن كتائب عز الدين القسام، عقب الهجوم الجوي على سورية بعدة ساعات، أعلنت النفير العام ورفعت درجة جاهزيتها في صفوف جنودها، مبررةً ذلك تحت مسمى “لحماية شعبنا والرد على أي عدوان”، وقد أيدت في بيانٍ لها عملية إسقاط المقاتلة الإسرائيلية، على لسان المتحدث بها، أبو عبيدة قائلًا: “هو حدث مهم ونوعي وعمل بطولي”، مضيفًا إنه: “يأتي هذا الحدث بعد سنواتٍ طويلة من العربدة، والعنجهية، واستباحة العدو الصهيوني، لكل المحرمات، وأن هذا يشكل ضربةً مهمة وقوية لسلاح الجو، الذي يتفاخر به العدو الإسرائيلي كذراعٍ طولى تصول وتجول دون رقيب أو حسيب”.
وتابع قائلًا: “ينبغي البناء والمراكمة على هذا العمل الرائد”، داعيًا إلى المزيد من استهداف أذرع العدو، وكبح جماحه، وقص أجنحته؛ لردعه عن العدوان على أمتنا العربية والإسلامية.
وكانت قد حملت الولايات المتحدة الأمريكية حركة حماس كافة الأزمات الإنسانية التي يحياها قطاع غزة، وهو ما اعتبرته حماس ضوءً أخضر للقوات الإسرائيلية لئن تواصل عدوانها على الشعب الفلسطيني.
ما الذي نستطيع أن نتوصل إليه من هذا الاستعراض الطويل للأحداث لهذين التنظيمين في هذين البلدين، فلسطين ولبنان؟.
إسرائيل استوطنت -وفي تعبير آخر اغتصبت- أرضًا، وهي من كافة جوانبها مكدسةً بالتنظيمات والمقاتلين الذين نشئوا على مجابهة إسرائيل وطردها من أراضيهم، إن الخطر الذي تعانيه إسرائيل سواء من كتائب عز الدين القسام القاطنة في القطاع في غزة، أو حزب الله اللبناني والذي يعتبر أكثر تهيئةً وجهوزيةً من كتائب القسام من حيث العدة والعتاد، هذا هو ما يقلق إسرائيل، فإسرائيل لا تهوى حربًا ستكلفها الكثير، وهذا هو سر رجوعها سريعًا للولايات المتحدة ومجلس الأمن في محاولاتٍ لإبقاء الوضع كما هو عليه، رغم قوة الجيش الإسرائيلي التي تفوق قوة التنظيمين.
ولكن يبدو من مناوشات إسرائيل أنها تريد أن توصل رسالةً لإيران بالأخص، عبر وكلائها فحزب الله يتبع بصورةٍ شبه رسمية لنظام الثورة في إيران، وكتائب القسام أقل من ذلك قليلًا ولكنها تحظى باهتمامٍ وتدعيمٍ ليسا بسيطان من إيران أيضًا.
إنهم يشكلون غصةً في حلقوم إسرائيل، ويعدان عدتهما لحربٍ طويلة الأمد مع إسرائيل، وإسرائيل تعلم هذا، ولكنها لا تريد إشعال فتيلٍ لن تقوى على إطفائه حاليًا. فالتعبير السياسي يقول أنه “لا ضير من إشعال بعض الحرائق، طالما كنت تمتلك قدرةً على إطفائها”. ولكن إن كنت لا تمتلك فليس لك أن تشعلها آلان.
وإيران هي الأخرى تريد أن تقض مضجع إسرائيل، ولا تجعلها تهنأ في المنطقة وهذا ما يجعلها تحرك أذرعها يمنة ويسرة والذين يحيطون بإسرائيل؛ لإرهاقها وتثبيطها.
والمجتع الدولي الذي كان دومًا يقف في صف إسرائيل، ولا يدينه، أصبح الآن يهرع إلى محاولة توفيق الأمور بينهم بعضهم البعض لئلا تشتعل نار جديدة في منطقةٍ مثقلةٍ بالرماد.