يبدو أن المُحافظين لن يكفوا عن رمي سِهامهم صوب روحاني وحكومته ورِفاقه من الإصلاحيين، ولن ينثنوا إلا وهم يرون الاتفاق النووي قد ذهب أدراج الرياح، ليثنوا عزم الإصلاحيين بالكُلية عن الدخول إلى ساحتهم أو ساحة السياسة إلا وهم محكومون وليسوا حُكامًا.
يحشد المحافظون كتائبهم من وسائل الإعلام، وهي السلاح الأبرز حاليًا لديهم، لتسليط وتكثيف الهجوم على روحاني بسبب إبرامه هذا الاتفاق، كما أنها تقوم بوضع تحليلاتٍ ونتائج للتداعيات التي سبّبها الاتفاق النووي منذ عام 2015، بالإضافة إلى وسم روحاني وحكومته بالعديد من الوُسُوم تعريجًا على محاولاته الانفكاك عن نهج المحافظين في إدارة الجمهورية الإسلامية.
صحيفة كيهان، وهي إحدة وسائل الإعلام المملوكة لخامنئي، في العاشر من مارس الماضي، سلَطت الضوء على مفاوضاتٍ سريّة تُجرَى بين إيران ودولٍ أُوروبية حول ملفي سوريا واليمن.
أشارت الصحيفة إلى أن هدف المفاوضات هو تحجيم دور إيران الإقليمي لكي تصبح إيران دولةً صغيرة الحجم بعد “قصقصة” أجنحتها في سوريا والعراق، مما سيُمهِّد الأرض لتوجيه ضربةٍ عسكرية مدمرة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها ضد إيران، حسبما ذكرت الصحيفة.
وحددت الصحيفة الدول المُفاوَض معها، أمثال، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وكانت هذه المفاوضات حول القضايا الإقليمية، وسوريا واليمن.
انتقلت الصحيفة لحالة تنظيرٍ وتقييم، فطرحت بعض الأسئلة حول المفاوضات الإيرانية – الأوروبية التي تجري حول سوريا واليمن، مثل:
- من هو المهندس للتفاوض بين الجانبين الإيراني والأوروبي؟
- من يقف وراء الكواليس ويوجه هذه المفاوضات؟
- ما هو هدف الجانب الإيراني من هذه المفاوضات؟
- ما هو المنظور الغربي لإيران خلال هذه المفاوضات الإقليمية؟
كما كشفت الصحيفة أيضًّا عن لقاءاتٍ أمريكية – إيرانية تمت في أوروبا، وقالت: “ما يجري من مفاوضات بين الطرف الإيراني والأوروبيين، هي مفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن في ظل المناخ الحالي إذا يُقاَل بأن الأمريكان يجلسون مع الإيرانيين ويتفاوضون فيما بينهم في إحدى المدن الأوروبية، ستواجه ردة فعل عنيفة من داخل إيران، وهذه المفاوضات قد يكتنفها الغموض ومن الممكن أن تفشل”.
وهُنا حدثت مرحلة الانتقال من قِبل الصحيفة، انتقال من عرضٍ وإسهاب وتحليل إلى توجيه اتهامات، فقد اتهمت كيهان الحكومة الإيرانية بخداع الرأي العام الإيراني حول المفاوضات التي تجري بين إيران والدول الأوروبية حول القضايا الإقليمية، إذ قالت: بريطانيا وفرنسا وألمانيا لديهم مهمة نيابة عن أمريكا في المفاوضات مع إيران، الأوروبيون يتفاوضون مع إيران حول المطالب الأمريكية، وما تطلبه أمريكا منهم، ولكن الجانب الإيراني بدلًا من أن يكشف للشعب الإيراني حقيقة هذه المفاوضات، يصر على أنها مفاوضاتٍ أوروبية – إيرانية وليس لأمريكا أي تدخل في ذلك.
كما قالت كيهان أيضًا: “الغرض الأمريكي والأوروبي من المفاوضات مع إيران، هو على وجه التحديد طرد إيران من المنطقة ووضع إيران داخل حدودها الجغرافية حصرًّا، ويتم تطبيق هذا الهدف من خلال الاستنتاج بأن “إيران الصغيرة” ستضمحل بسرعة وتنهار”.
واعتبرت كيهان أن إيران ستشهد أحداثًا هامة وقالت: “من خلال الأدبيات المستخدمة في تصريحات الحكومة الإيرانية حول المفاوضات مع الأوروبين، فهذه التصريحات هي غطاء للأحداث الإرهابية التي ستحدث”، على حد تعبيرها.
كيف نُفسِّر تحليل صحيفة كيهان؟
كيهان لا تُمثِّل نفسها فهي ليست صحيفة مُستقلة، كما أنها لا تُعبِر عن صوت خامنئي فقط رغم تبعيتها له، ولكنها تُعبِر عن من هُم وراءخامنئي، عن هذا التيار السائح في الجمهورية من المحافظين باختلاف درجاتهم.
وقد عبرت الصحيفة ولمحت إلى مقصدها ومقصد المحافظين والذين لم يرضوا بأي درجة من الدرجات عن الاتفاق النووي الذي أبرمه روحاني في عام 2015، وهذه الدرجة من الرفض القاطع ليس لأهدافٍ خارجية فقط ولكن لأُمورٍ سياسية داخلية تكمُن في هذه المشاحنات بين تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين، الاعتقاد الجازم لدى المحافظين هو أن الإصلاحيين استطاعوا التحصُل على درجةٍ كبيرةٍ من الرِضا الشعبي عن سياستهم الانفتاحية عقب الاتفاق النووي.
وحرّروا نسبيًّا الوفورات المالية للبلاد والتي تُقدَّر بمليارات الدولارات والتي كانت محجوز عليها في الخارج، كما أن المحافظين ما زال يقبع في ذاكراتهم هذه الاحتفالات الصاخبة والتي جالت وطافت شوارع البلاد فرحًا على إثر توقيع الاتفاق، حتى ولو لم يُحقق أهدافه عقب ذلك على إثر تنصل الولايات المتحدة من إنفاذ الاتفاق برُمته.
الصحيفة عرجت على هذا الأمر، عندما وجّهت اتهامًا مباشرًا للحكومة الإيرانية بأنها تريد تحويل إيران إلى بلدٍ “طبيعيّ”، وقالت: “يسعى الجانب الإيراني في هذه المفاوضات تحويل إيران إلى “دولةٍ طبيعية”، وفي الواقع يحاول تحويل إيران من ” الاستثناء إلى بلدٍ مثل بقية البلدان وهذا ينافي أهداف الثورة الإيرانية”.
مضيفةً: “تحولت إيران إلى بلد عادي يتعارض مع هوية الجهورية الإسلامية الإيرانية، ونحن لا نريد أن نصبح كدولة الكويت، أو سلطنة عمان، أو بوركينافاسو، أو السعودية، ونعود إلى مرحلةٍ كنا لا نتمتع فيها بالاستقلال، وكانت مصالحنا القومية لا معنى على الإطلاق”.
وهذا هو منطق المحافظين في نظرتهم لروحاني وتياره، لذلك وهذا ما قد أشرنا إليه سلفًا في جُملةٍ من تقاريرنا، اندفعت جُموعٌ منهم في تأييد تظاهرات كانون الثاني / يناير 2018، واشتركت ودعَمت وأيّدت قياداتٌ منهم هذا الفعل الذي لا يتوافق بأي صُورة مع هوية البلاد المولودة من رحم 1979 ميلاديًّا، رغبةً ليس إلا في الإطاحة بروحاني سياسيًّا ولكن أتت رياح التظاهرات بما لا تشتهي سُفن المحافظين، وخرج روحاني أقل السياسيين ضررًّا من هذه التظاهرات بينما فُتِّحت الأعين على المحافظين ونفوذهم وسيطرتهم في البلاد، وهذا ما جعل خامنئي يبطش بقوة ويُلقِي بطول يده بمن خرجوا من صفه تأييدًا لهذه الاعتصامات والتظاهرات، إمعانًا في التنكيل بهم عقب خطأهم المُركَّب.
لذلك صوّب المحافظون كافة جهودهم لإبراز الثغرات والعقبات في الاتفاق النووي ونتائجه والتي صافّوها في خانة التأثير على الثقافة والمجتمع وأن سياسة روحاني الانفتاحية ستُغرِّب إيران وستهوي بها في بئر الأمراض الاجتماعية مثلها مثل أوروبا وأميركا، كما أن روحاني سيُقزِّم ويختزل دور الجمهورية السياسي وسيجعلها بلدًا عاديًّا نِتاج منهاجه التفاوضي الذي سيُلقِي بتبعاته على إهانة إيران سياسيًّا ويخالف من سبقوه من حُكام الجمهورية.
فقد صرّحت الصحيفة أن أمريكا تريد إزاحة حلفاء إيران في اليمن وسوريا لإضعاف إيران داخليًّا، وقالت: “في الواقع، النتيجة الأولى للمفاوضات الإقليمية هو إضعاف الموقف الإيراني ليس فقط إقليميًّا فحسب بل داخليًّا في العمق الإيراني أيضًا، وبذلك بسهولة سيتم الهجوم على “إيران الصغيرة” من قِبل السعودية، وإسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، حيث أنهم غاضبون بشدة من إيران.”
فأصبح لسان حال المحافظين إفشال الاتفاق النووي وإبراز مثالبه وعيوبه لتوجيه الضربة الأخيرة المُجدِية لروحاني والتي ستُغيِّر مسار السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية على السواء بالكُلية.
كيهان أشارت إلى نتيجةٍ لسياسات روحاني، أنه في حال تراجعه خلال المفاوضات مع الأوروبيين والأمريكان، فإنه سيتم توجيه ضربةٍ عسكريةٍ مدمرة ضد إيران، وقالت: إن “الاستسلام أمام أوروبا وأمريكا سيؤدي بالتأكيد إلى حربٍ كبرى، حرب تحول أي منطقة في إيران إلى جُزءٍ ينخرط في حرب داخلية وخارجية، وهذا هو المخطط الذي وضعته أوروبا وأمريكا لإيران”.
لكن ما لم تُشِر إليه الصحيفة أنه في حالة إبراز إيران ممانعةٍ وصلادةٍ وتأفُفٍ ولم تتراجع في المفاوضات، وتم إفشال الاتفاق النووي، هل في نفس الحالة لن تقوم حربٌ كُباّر تأكل الأخضر واليابس في طريقها، وتتظور المشاحنات الدبلوماسية إلى مراحلٍ لا يُمكن معها عدم بقاء الوضع على حاله؟
فلماذا تُبرِز صحافة المحافظين وإعلامهم جانبًا واحدًا فقط من الرؤية دون إدراكٍ وإلمامٍ كامل بها؟