ما دون حرب النار والبارود، تشتعل حربًا تنضوي أسفلها معارك على كافة الأصعدة والمناحي والأُوجه، وهذا إن يقع فهو يقع في صناعة المخيال الجمعي للفرد وإقناعه بأن ما يقع بين دولتين أو معسكرين من حربٍ اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو اتهامات وشائعات، طالما لم يدخل فيها نيران وبارود ومفرقعات ولهب فهي ليست حرب، وإن كانت الأُولى أنكى وأكثر إثخانًا وإيذاءً.
وهو ما أصبحت تنتهجه الولايات المتحدة الأمريكية وإيران منذ قدوم ترامب على سُدة السُلطة في أميركا، وأصبحت كلتا الدولتين تُديران صِراعات كجبال الجليد ما هو مخفيٌّ منها وغير ظاهر أكثر بكثير للغاية مما هو ظاهر على سطح الماء، نزاعاتٌ من القِيل والقال وحُرُوب الدُبلوماسية وخطابات الخارجية التي لا تتوقف عن السيلان.
طهران: أمريكا تُصادِر معلومات
في العاشر من آذار / مارس الجاري، اتهم رئيس لجنة البحث عن المفقودين في أركان الجيش الإيراني، العميد محمد باقر زادة، الولايات المتحدة الأميركية بنقل المعلومات الإنسانية المتعلقة بالحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، إلى البنتاجون، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية.
حتى أن باقر زادة دعا خلال استقباله رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بيتر مايوفر، إلى إعادة هذه المعلومات للتمكن من معرفة مصير تلك المجموعة من الشهداء الذين قتلهم نظام صدام في معسكرات الأسر بصورةٍ مخفية ودفنهم في أماكنٍ مجهولة، حسبما صرّح.
كما طالب زادة بضرورة تعزيز النشاطات التي يقوم بها الصليب الأحمر الدولي للبحث عن المفقودين في الحرب، مشيرًا إلى أهمية دورها في علاج المشاكل النفسية والاجتماعية الناجمة عن الحرب.
كما قد أشار إلى خبرة لجنته في البحث عن المفقودين طيلة الأعوام الماضية، وأبدى استعداده لتقديم هذه الخبرات من أجل الاستفادة منها في مختلف دول العالم.
المُستغرَب أن هذا الأمر قابل هوىً لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي أعرب رئيسها، بيتر مايوفر عن “تقديره للنشاطات التي تقوم بها لجنة البحث عن المفقودين”، داعيًا إياها إلى تقديم الدعم والمساعدة للصليب الأحمر في هذا المجال. كما أبدى استعداد لجنته لتعزيز التعاون مع إيران نظرًا لكثرة النزاعات الإقليمية، وزيادة عدة المفقودين في الحروب الأخيرة.
واشنطن: إيران تعبث ببرلمان
في السادس عشر من الشهر الجاري، شنّ وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، غارة كلامية على طهران، اتهمها فيها بمحاولتها “التدخل” في سير عملية الانتخابات البرلمانية العراقية التي ستجرى في أيار/ مايو المقبل؛ ويتأتى هذا عبر ضخها الأموال في الساحة السياسية العراقية.
رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، يدخل الانتخابات المقبلة بكتلةٍ برلمانية يريد أن يفوز بواسطتها بولايةٍ جديدة، عبر دعمٍ أمريكيّ، وانتصارًا لم يكن هو صاحبه على تنظيم الدولة الإسلامية.
ولكن يُجابهه رديف من أكثر حلفاء الجمهورية الإيرانية المتوطنين في العراق موثوقيةً، أمثال، رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، ووزير النقل السابق، هادي العامري.
وقد أضاف ماتيس قائلًا: “لدينا أدلة مثيرة للقلق على أن إيران تحاول التأثير، باستخدام المال، على الانتخابات العراقية. هذه الأموال تُستخدَم للتأثير على المرشحين والتأثير على الأصوات، وهي ليست مبالغ قليلة من المال على ما نعتقد. وهذا في رأينا غير مفيد للغاية”.
متابعًا بالقول: “تحذو إيران حذو روسيا بالتدخل في الانتخابات العراقية”، كما فعلت موسكو في الانتخابات الأمريكية، وهذا وفق قوله.
وقد رفض ماتيس الإفصاح أو الإجابة عما إذا كان يعتقد أن الجهود الإيرانية نجحت أو إن كانت طهران تسعى لتقويض العبادي.
سنجد في الحادثتين تفسيرًا لمجموعة أحداثٍ تُوضَع في بؤرة التحليل، على سبيل المثال العراق والذي دارحوله الاتهامان كاشفًا عن مدى توجُس الإدارة الأميركية من حجم النفوذ والتأثير والسيطرة التي أصبحت تحوزه إيران في العراق وقد امتد ذلك التأثير في مناحٍ عدة، كقضية كركوك وتفكيكها حُلم الدولة الكُردية وضرب بارزاني ومن وراءه في مقتلٍ أحال حلمهم كابوسًا وإبقاء الدولة العراقية على وحدتها.
بالإضافة إلى حجم التضحيات الكُبّار التي قُدِّمت من قِبل المليشيات التابعة للجمهورية الإيرانية والتي كانت تقاتل في العراق بأعدادٍ هائلة تلبيةً لنداء خامنئي بالدفاع عن العتبات المقدسة في العراق وخِيضت معارك لا حصر لها مع تنظيم الدولة الإسلامية، وكان أبرز هذه القوات، قوات الحشد الشعبي الشيعي، وفيلق القدس الذراع العسكري الخارجي لقوات الحرس الثوري الإيراني بقيادة قاسم سُليماني.
حتى قد وصل الأمر إلى أن الأحزاب السياسية العراقية تنفست الصُعداء، وأصبحت لديها إمكانية العمل بحُرية بعيدًا عن ضغوطات قوات الحشد الشعبي الشيعية، واستغلالًا لأية مُتنفَس مُتاَح للتملُص من هذه السيطرة، على إثر تغيير قوات الحشد من تمركزاتها العسكرية جرّاء الحملة التي تخوضها القوات التركية في مدينة عِفرين.
وسنجد على الجانب الآخر، قضيةً أُخرى، تتمثل في بنوك ومستودعات المعلومات التي تُخبئها الولايات المتحدة حتى هذا الحين عن أزمان مختلفة غابرةً وحديثة، لا سيما الحرب العراقي الإيرانية التي استمرت ثمان سنوات، وقد خلّفت ورائها كثر من مليون قتيل، وتخريب ودمار واسعين طالا البلدين.
وإيران تُبدِي اهتمامًا بهذا الملف بقُوة، حتى أنه في في مطلع شباط / فبراير الماضي، قام فريقٌ إيرانيّ بالبدء في البجث عن رفات حرب الثمانيات في جبل كيسكة قرب الحدود العراقية – الإيرانية، وهذه العملية تجري لأول مرة في هذه المناطق بعد مرور نحو 30 سنة على انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، لاسيما أن الحدود من جهة ناحية مندلي -منطقة البحث وهي بمحافظة ديالى- كانت ساحة معارك ضارية في عقد الثمانيات من القرن الماضي.
كما أنه في الثالث عشر من الشهر الجاري، أكّد المرشد، علي خامنئي، أن هُناك قوىً كبرى دعمت رئيس العراق الأسبق، صدام حسين، لتدمير إيران، مفيدًا أن الولايات المتحدة والاتحاد السوڤيتي رُغم معارضته لأمريكا وجزء قوي من أوروبا، مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا قد قدمت، المواد الكيميائية لصدام حسين، كي يصنع منها قنابل تدمر إيران، مبينًا أن جميعهم دعموا صدام وساعدوه بقدر استطاعتهم، لتحقيق هدفهم في تدمير الجمهورية.
حتى أن خامنئي استغل الفرصة المُتاحة لديه، وأقام قنطرةً تسويغية لتبرير الهجمات الكيميائية التي يضرب بها نظام الأسد شعبه في سوريا أو المليشيات التابعة له، عبر قوله: “أولئك الذين ينتقدون جماعات معينة اليوم، بحجة استخدام الأسلحة الكيميائية اليوم، هم أنفسهم من أعطوا مواد كيميائية بشكلٍ علنيّ لصدام كي يصنع قنابله، التي تم استخدامها ضد الأبرياء الإيرانيين”، لافتًا إلى انه “حتى اليوم، بعد 30 عامًا، ما زال لدينا بعض قدامى المحاربين، يعانون من الأسلحة الكيميائية، التي استُخدمت بحقهم في الحرب”.
هذه المُلاسنات بين البلدين تزداد حدتها بمرور أيام فترة السماح التي أعطاها الرئيس ترامب لقُوى الاتفاق النووي المُبرَم مع إيران لتعديلهِ؛ وإلا ستنسحب الولايات المتحدة من لاتفاق بالكُلية إيذانًا بما هو أسوأ في القادم، لاسيما بعد أن صرّح السيناتور الجمهوري، بوب كوركر، لـشبكة CBS الأمريكية، أنه يتوقع فعليًّا أن ترامب سيُعلِن انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران في أيار / مايو القادم.
فماذا ستكشف الأيام القادمة بين إيران، وأميركا، وهل سيوقف الأمر عند المُلاسنات والمُشاحنات الكلامية أم أنه سيأخذ طورًا جديدًا تُصبِح فيه الفِعال هي السيد والكلمات بابٌ من الماضي؟.