في ظل الإصرار التركي على الوصول إلى قلب عفرين، متوازيًّا مع رغبةً جامحة للقضاء على تنظيمات الأكراد العسكرية المتمركزة في المناطق المتاخمة لتركيا في سُوريا، وتطوير الهجوم من تطهير عفرين إلى التوجه شطر مدينة منبج وحتى الوصول إلى حدود العراق، كما صرّح أردوغان، وتبديد فكرة إقامة دولةٍ كرديةٍ مُدعَّمة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية في سُوريا ممتدةً على حدود جيرانها كتُركيا وإيران والعراق.
بدت تُركيا عازمةً على الجنوح لتهدئةٍ مفروضةٍ عليها مع الجمهورية الإيرانية، كي تُفرِغ الساحة من الصِراعات وتُصفِّرها لصّب وتوحيد كافة قواها صوب هدفها في عفرين، كي لا يستمر وضع التشتُت الذي تحياه الإدارة التركية في إداراتها الخارجية للملف السُوري.
دلائل الميل للهدوء
في الخامس عشر من هذا الشهر، عقدا مساعد وزير الدفاع الإيراني، العميد محمد أحدي، ونائب رئيس هيئة أركان القوات المسلحة التركية، الفريق أميد دوندار، اجتماعًا في مقر هيئة أركان الجيش التركي، في العاصمة التركية، أنقرة؛ بحثا فيه العلاقات الثنائية والتعاون الدفاعي بين البلدين. حسبما نقلت وكالة تسنيم الإيرانية.
وقد أكد الجانبان خلال اللقاء، ضرورة تقوية العلاقات الدفاعية بين إيران وتركيا، وكذلك الحفاظ على وحدة أراضي وسيادة دول المنطقة.
وقد قيّما أثناء الاجتماع، التعاون الثّنائي والتطوّرات في المنطقة، إضافةً الى تعزيز العلاقات الثنائية لما يخدم استقرار وأمن وسلام المنطقة.
الناظر إلى الميل التركي نحو تصفية الشوائب التي شابت العلاقات بين البلدين، هو أن زيارة مساعد وزير الدّفاع الإيراني لأنقرة، كانت بُناءً على دعوة ٍوجّهها له نظيره التركي، شواي آلباي، وقد التقيا معًا، وتباحثا حول المواضيع ذات الاهتمام المشترك.
كما أن إيران فعلت بالمثل، دلالةً على تقبُلها هذا الأمر، فقد سلّم العميد محمد أحدي دعوةً رسميّة من وزير الدفاع الإيراني، العميد أحمد حاتمي، إلى وزير الدفاع التركي، نور الدين جانيكلي، لزيارة العاصمة الإيرانية، طهران.
حتى أن مساعد وزير الدّفاع الإيراني والوفد المرافق له أطلّعا خلال جولةٍ لهما، على الصناعات الدفاعية التركية في عددٍ من مراكز الصّناعات الدفاعية.
في السابع من شُباط / فبراير الماضي، انطلق وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو صوب العاصمة الإيرانية، طهران، لإجراء محادثات مع نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، وكذلك الرئيس الإيراني، حسن روحاني.
كان الغرض من الزيارة واضحًا، وهو طمأنة طهران بشأن عملياتها العسكرية في عفرين، وقد بيّن أوغلو للنظام الإيراني أن العملية في عفرين مؤقتة، وهدفها القضاء على الإرهاب في المنطقة، ونفى أوغلو كذلك أن تكون لبلاده أطماع في الأراضي السورية.
بينما أظهر أوغلو لروحاني وظريف أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على إفساد العلاقات بين البلدين، وأبان سلامة نيّة دولته، عندما نفى وجود أي صفقة مع أي طرف، بما في ذلك الولايات المتحدة، بشأن عفرين.
وقد قابل هذا التصرُف والحديث هوىً وميل من قِبل الجانب الإيراني، حتى أن الرئيس حسن روحاني صرّح ما هو مفاده خلال اجتماعه مع وزير الخارجية التركي، إن طهران مستعدةٌ لتطوير التعاون مع أنقرة لحل المشكلات الإقليمية، ورفع مخاوف المنطقة.
على صَعيدٍ آخر، أبدت الرئاسة التركية موافقتها على عقد قمةٍ تجمع رؤساء الدول الثلاث، إيران وتروكيا وروسيا، على إثر مكالمة هاتفية أجرتها الرئاسة الروسية في شباط / فبراير الماضي، ومن المُزمع إقامتة هذه القمة في مدينة إسطنبول التركية، في أبريل المُقبِل، وهي على غِرار نظيرتها التي عُقِدت في تشرين الثاني / نوفمبر من عام 2017، بمدينة سوتشي الروسية، وكانت بشأن الأزمة السورية، ودعوا خلالها ممثلي النظام السوري، والمعارضة، للمشاركة البناءة في مؤتمر الحوار السوري، الذي عُقد أواخر كانون الثاني/ يناير الماضي من هذا العام.
غضبٌ إيرانيّ
يُذكر أنه منذ انطلاق عملية “غصن الزيتون” التركية في مدينة عفرين، وهُناك غضبٌ إيرانيٌّ يتصاعد حتى كأنك تستشعر دخانه وهو يتصاعد في السماء.
وقد بدأ هذا الغضب يظهر في الهجمات المتتالية التي قادتها وسائل الإعلام الإيرانيّة بمُختلف توجهاتها على العملية التركية في عفرين، وقد أشرنا إلى جُملةٍ واسعةٍ من هذا المدّ الهجومي على العملية، في تقريرٍ مُوسّع، يُمكنكم الاطلاع عليه عبر هذا الرابط:
حتى أن صحيفة “الشرق” الإيرنية الإصلاحية المُقرّبة من الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في نهاية شباط / فبراير الماضي، شنت هجومًا حادًّا للغاية وبصُورةٍ مبالغة، على العملية العسكرية التركية في عفرين، وعلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حتى أنها وصفته بأنه “ديكتاتور”، وأنه في السنوات العشر الماضية يحكم تركيا من خلال قمع خصومه وتقييد الحريات الديمقراطية. وهاجمت الجنود الأتراك وجنود الجيش السُوري الحُر المشاركين في العملية بأنهم سُراق ولُصوص، وأنهم نهبوا أموال الناس وسرقوا بيوتهم وممتلكاتهم وحتى الحيوانات والدواجن.
وهاجمت الصحيفة المسؤولين الأتراك، ووصفتهم بأنهم كـ”الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، سيرفضون اتهام استخدام الأسلحة الكيميائية”، حتى أنها وصفت اما يحدث في عفرين بأنه “كربلاء جديدة”، وادعت أن تركيا استخدمت القنابل العنقودية والنابالم في المناطق التي تزعم أنها أماكن تجمع المليشيات الكردية، وقصفت كذلك مناطق سكنية في عفرين بقنابل غاز الكلور.
وقد تحول هذا الغضب الإيراني من حالةٍ إعلامية مُنظّمة إلى موقفٍ رسميّ، وهذا ظهر قُبيل زيارة جاويش أوغلو إلى طهران بيومين فقط، عندما هاجمت طهران العملية إجمالًا، وطالبت إيران تُركيا بإيقاف عمليتها العسكرية فورًا، مبررةً هذا بانتهاكها لسيادة سوريا وأنها ستُزيِد من التوترات فيها.
عزونا غضب إيران من تركيا إلى مُسبباتٍ عدة، مثل عودة تنظيمات الجهادية السلفية، أو قوات المعارضة السُورية، التي تراها إيران، تنظيمات إرهابية وتُهدد أمنها واستقرارها هي وحليفها السُوري، بشار الأسد. وبالأخص قوات المعارضة، لأن إيران تنظر لهذه العملية، على أنها أكسير حياة لقوات المعارضة السُورية، وإحياءً لنفوذها مُجددًا بصورة أكثر تناميًا مما قد مضى، لاسيما كذلك أن تركيا تعتمد في عمليات الإبرار على قوات الجيش السُوري الحر، والتي تقاتل بجانب تركيا بأعدادٍ ضخمة من الجنود والعتاد، ومن المقرر أن تهب تركيا هذه المناطق لقوات الجيش السوري الحر.
وسببٌ آخر، وهو أن إيران ترى تُركيا وكأنها تريد قطعةً من الأراضي السورية وأن تُصبِح أجزاءً من الداخل السوري داخلةً في القرار السياسي التركي، وأن تُصبِح خاضعةً للسيادة التركية، وهذا ما أثار ثائرة إيران وحفيظتها بقوة، فكيف لتركيا أن تكون آخر المشاركين في الميدان وأول الحاصلين على المكاسب.
وفي أسبابٍ جديدة، أظهرها فراس إلياس، في ورقةٍ دوّنها على معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، تحت اسم، ” لماذا تخشى إيران من العمليات العسكرية التركية في عفرين؟”، فقد بيّن أن إيران تعارض وجود تركيا في عفرين باعتباره تهديدًا طويل الأمد لمستقبل الأسد، خاصة إذا نجحت تركيا ووكلاؤها العرب المناهضون للنظام في فتح جبهةٍ جديدة في حلب أو منبج، أو حتى على الضفة الشرقية من نهر الفرات. في هذه الحالة، ستُشكِّل تهديدًا للمعاقل الساحلية الشمالية للنظام، ويمكن أن تعيق حتى التقدم الإيراني الجامح نحو البحر الأبيض المتوسط.
وأيضًا، تخوُف إيران من أن تقوم قوات سوريا الديمقراطية بسحب أغلب قواتها المتواجدة في مناطق شرق نهر الفرات، والدفع بهم إلى عفرين لدعم القوات الكردية هناك، من أن يُعرِّض هذا المليشيات الأفغانية الشيعية المرابطة على الحدود العراقية السورية، وقوات الحشد الشعبي المتمركزة في مناطق جنوب سنجار وربيعة، لهجمات وكمائن وتنظيم الدولة الإسلامية،الذي يمتلك ما يزيد عن 1500 عنصر تابع له في هذه المناطق.
ولسببين جديدين، أولهما أنه في حالة سيطرة القوات التركية، والجيش الحر، على عفرين، فإن هذه العملية سوف تقطع “الطريق البري” الذي افتتحته إيران في اتجاه البحر الأبيض المتوسط، وثانيهما أن إيران تخشى من أن تؤدي السيطرة على عفرين، إلى قيام الجيش الحر بعملياتٍ عسكرية جديدة لاستعادة مدينة حلب.
إيران وفرضية المعادلة
لقد ظهرت إيران في هذا الموقف، وهي تحاول استعادة موقعها في القرار السُوري بقُوة على إثر محاولاتٍ متتالية لا تتوقف من قِبل الجانب الروسي لتنحيتها عن سُوريا، وطردها بطول يدها منها دونما أن تتحصل على أية مكاسب أو مفاوز أو استحقاقات بعدما كل ما بذلته من تضحياتٍ في سبيل إبقاء الأسد على كُرسيّه.
ويُرى أن طلب تركيا وُدّ إيران، لتصفية الخلافات بينهما حول العملية العسكرية، يُبيّن أن تركيا تعلم حقيقةً مدى تأثير إيران وقرارها على سُوريا، وتحكُمها الفعلي في العديد من مقاليد الأمور فيها، وبسط سيطرتها عليها، وهذا في الوقت ذاته يُشعِر إيران بأهميتها في سُوريا، وأن من يدخل هُنا ليس عليه أن يطلب ود أو إذن أو ترخيص عبور من روسيا فقط، بل إيران يضً، وأنها تتناصف القرار السُوري مع روسيا.
لاسيما أن تركيا في آن ذهاب وزير خارجيتها إلى طهران لطمأنتها بشأن عمليتها في عفرين، انتقدت بقوة تصريحاتٍ فرنسية، لوزير خارجيتها، چان إيف لورديان بشأن العملية نفسها، وقال متحدث باسم الخارجية التركية إن بلاده تنتظر من حلفائها الوقوف إلى جانبها في حربها على ما وصفها بالتنظيمات الإرهابية في عفرين (في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردية)، والابتعاد عن دعم أي تنظيم إرهابي بأي تصريحات.
وهذا دليل واضح على اختلاف الرؤية التركية في التعامل بشأن القضية السُورية مع الغرب من جهة وإيران من جهةٍ أُخرى.
إيران على استعداد أن تخوض عِراكًا وحروبًا أكثر شناعةً وكُلفةً بشريةً وماديةً مما قد سبق، إذ ما تبادر إليها أنها ستُخرج بخُفي حُنين من سوريا، وستجعل المعادلة صِفرية تمامًا إذا ما تم هذا، ولكنها حتى هذه اللحظة تقُم بضبط الأُمور بصُورة مُتزنة لحفظ مكاسبها وإدارتها للصراع في سُوريا، وقد نجحت حتى الآن في مهمتين، الأولى إمساك الأكراد بقبضةٍ فولاذية إن تشأ توظفهم في حماية بشار أو تشأ تسحقهم إذا ما ترامى إليهم فكرة إقامة دولة، والثانية إصلاح العلاقات الدبلوماسية مع تركيا بشأن عمليتها العسكرية في عفرين، وتحييدها للجانب التركي.
فماذا ستفعل إيران مع باقي أطراف المعادلة، كالتواجد الأميركي في أراضي سُوريا، والهجمات الجوية الإسرائيلية، والمحاولات السُعودية السلمانية في صناعة دورٍ لها في سُوريا، وتنظيمات وفصائل المعارضة على طول الجبهة السُورية وعرضها، هل ستنجح في كل هذا؟
هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة، وتقاريرنا الآتية أيضًا.
المصادر