يبدو أن اسم إيران أصبح مرتبطًا فقط بالأزمات والحُرُوب والمعضلات في ظل تمنُعها وصُدودٌ تمارسه مع النظام العالمي من جهة، واستراتيچيتها السياسية والعسكرية والفكرية من جهةٍ أُخرى والتي عليها الكثير من علامات الاستفهام والنقد وما زال هذا الأمر مرتبطًا بحُكم نظام الثورة في الجمهورية.
أزمةٌ جديدة طفت على السطح حديثًا على إثر اعتداءٍ تم على السفارة الإيرانية في العاصمة البريطانية، لندن، فقد اقتحم محتجون مبنى السفارة، يوم الجمعة الماضي، وكان الاقتحام احتجاجًا على اعتقال الزعيم الديني الشيعي، حُسين الشيرازي نجل المرجع صادق الشيرازي.
المُتمرِدون في نظر مسؤولي إيران
كان قد أعلن السفير الإيراني في لندن، حميد بعيدي نجاد، أن عددًا من أتباع الفرقة الشيرازية هاجموا مبنى السفارة الإيرانية، وقاموا بتكسير عمود العلم”.
مضيفًا في تغريدةٍ له عبر حسابه على منصّة تويتر، أن المحتجين هتفوا ضد المسؤولين في إيران، بل قاموا بلعن وسبّ صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأُمهات المؤمنين -رضوان الله عليهم أجمعين- أمثال السيدة عائشة، والخُلفاء الراشدين، أبا بكر، وعمر، وعثمان. كما قد شُوهِد المُحتجين يحملون العصي والسيوف.
المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، ذكر إن الشرطة البريطانية اعتقلت المعتدين على السفارة.
كما نفى أن تكون السفارة الإيرانية قد احتُلت من قِبل عناصر متطرفة، موضحًا أن عددًا قليلًا من المهاجمين تسلّلوا إلى احدى شُرفات السفارة، وأساؤوا للعلم الإيراني وقاموا “بهزّ رايتهم”.
المساعد السياسي لوزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، هو الآخر أكّد أنه أبلغ سفير بريطانيا لدى طهران احتجاج بلاده، مطالبًا بحراسةٍ كاملةٍ للدبلوماسيين، والتصدي للمعتدين.
وقد أبلغ السفير البريطاني بطهران، عراقجي اعتذار الحكومة البريطانية الرسمي مؤكدًا أن الشرطة حاضرةٌ بالمكان وتسيطر على الوضع، وأنه تم اتخاذ كل التدابير للحفاظ على حياة الدبلوماسيين الايرانيين ومنع دخول المعتدين لداخل السفارة. وهذا على حدّ نقل قناة “العال” الإيرانية للأحداث والتصريحات.
وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية، إرنا، أفادت أن المهاجمين دخلوا مبنى السفارة، ورفعوا علمهم على شرفة المبنى، دون أي رد فعل من جانب شرطة لندن وهذا كأنه تكذيب لما ذكره السفير البريطاني في طهران. وقد أضافت الوكالة أن الاعتداء انتهى بتوقيف المعتدين، وأن وزارة الخارجية الإيرانية أعربت عن إدانتها لهذا الهجوم.
نقلًا عن وكالة أنباء “مهر”، فقد أدان مستشار المرشد للشؤون الدولية، على أكبر ولايتي، في مؤتمرٍ صحفي السبت الماضي، هجوم عددٍ من “المشاغبين” على سفارة إيران في لندن. وقد حمّل الحكومة البريطانية مسؤولية ذلك، وأكّد أن الحكومة البريطانية كان بإمكانها منع المعتدين من الاعتداء على السفارة في لندن.
ولايتي صعّد الأمر ووصل بهجومه إلى شاطئِ جديد، عندما ذكر أنه ليس مستبعَدًا أن يكون هؤلاء المشاغبين لديهم اتصالات مع المخابرات البريطانية.
ودخل سائرًا على نفس الدرب، متحدث الحكومة الإيرانية، محمد باقر نوبخت، الذي اتهم الشرطة البريطانية بـالتأخر في التدخُل ضد الاعتداء على سفارة بلاده، وأضاف أن الشرطة البريطانية لم تلتزم بالقواعد الدولية المتعلقة بحماية البعثات الدبلوماسية.
تأويلٌ واستثمار سياسي
بسُرعةٍ لافتة، كانت هُناك روايةٌ إيرانيّة عن المحتجين الذين اقتحموا السفارة. وكانت الرواية ذات تأويلٍ سياسيّ بشكلٍ كبير وليس هُناك من هو أبرع في هذا الحقل مثل النظام الإيراني.
فقد أقام أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام، محسن رضائي، علاقةً ارتباطيةً بين زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى بريطانيا، واعتداء خمسة أشخاص على السفارة الإيرانية في لندن، حتى أنه قال: “أن لندن هي ملجأ التيارات المناوئة للشيعة والسنة”.
مضيفًا في رسالةٍ له على موقع الإنستغرام، ونقلًا عن وكالة “مهر”،فإن زيارة بن سلمان إلى بريطانيا، قد وضعت حكومة لندن تحت الضغط والاحتجاج من قِبل الشعب؛ ولهذا لجأت إلى تخطيط عمليةٍ استعراضيةٍ من خلال خمسة اشخاص شيعة للهجوم على السفارة الإيرانية؛ لصرف الأنظار عن الأحداث التي تشهدها البلاد عقب زيارة ولي العهد السعودي بن سلمان، وتشويش الرأي العام، وإلهائه عن الجرائم التي يرتكبها النظام الديكتاتوري السعودي في المنطقة.
ونوّه إلى أن الأجهزة الأمنية في بريطانيا ينبغي عليها ألا تغفل عن منشأ هذه التيارات المُعادية، وأن ترد عليها بما تستحق، حسبما ذكرت الوكالة نقلًا عنه.
السفير الإيراني في بريطانيا، حميد بعيدي نجاد، أيضًّا جنح نحو جُزءٍ كبير من هذا التأويل، إذ وصف المقتحمين بأنهم أبناء جماعة شيعيةٍ متطرفة، وأنهم يُصِّرون على إساءة الشخصيات الكبرى لدي أهل السنة من خلال تفسيرٍ طائفيّ للشيعة.
إيران استثمرت الحدث، وشُرعت في تدوين مذكرة احتجاج وقامت بإعطائها للسفير البريطاني، الذي وصل به الأمر إلى أن يُقدِم اعتذارًا لمرةٍ ثانية حول الحادثة، مُعرِبًا عن أسفه لما تعرضت له، ومؤكدًا إنه سيُبلغ المسؤولين البريطانيين فورًا مذكرة الاحتجاج.
المذكرة كانت تحمل، كما وصفت وكالـة مهر، أشد عبارات الاستنكار مُحمِّلةً الحكومة البريطانية مسؤولية هذه الحادثة، وداعيةً الحكومة البريطانية إلى تنفيذ واجباتها في المحافظة علي الدبلوماسيين والمقار الدبلوماسية وتوفير الحماية للمقار التابعة للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الشيرازيون في قفص الاتهام
على ما يبدو أن العلاقة الهادئة الحذرة بين الطرفين، نظام الثورة الإسلامية بقيادة خامنئي وأتباعه من جهة، والتيار الشيرازي من جهةٍ أخرى أصبحت تُفضِي إلى مرحلةٍ جديدة سيكون الصراع أساسها ومنطقها الحاكم.
وبهذه الموجة من التصريحات أصبح التيار الشيرازي يصطف بجوار الجماعات والتنظيمات والتيارات المغضوب عليها من قِبل النظام الحاكم.
جدير بالذكر أن الشيرازيين أصبحوا أسفل مقصلة النظام عقب اقتياد السلطات حُسين نجل رجل الدين والمرجع الشيعي، الصادق الحسيني الشيرازي، للمرةِ الثانية خلال شهورٍ قليلة، بتهمة إهانة المرشد الأعلى عليّ خامنئي، خلال محاضرةٍ تتحدث عن مفهوم ولاية الفقيه، وتطرّق خلالها إلى ما وصفه “حكم الظالمين الجائر في بلاد الإسلام”، كما أن حُسين تم استدعائه إلى مركز الاستخبارات لأكثر من مرة على مدى السنوات الماضية.
وكُنّا قد أشرنا من قبل إلى معضلة التيار الشيرازي في إيران، عبر تقريرتن قدمناهما، يمكنكم الاطلاع 1، 2.
إذ أن الشيرازيين باتوا يدعون إلى استقلال الحوزات العلمية والمراجع الدينية عن سُلطان خامنئي، وأصبح خطابهم مُوجَّه لمعارضة النظام، وأصبحوا محسوبين على التيار الداعي لفصل الدين عن السياسة.
وكانت قناة “فدك”، التابعة لرجل الدين الشيعي، ياسر الحبيب، عرضت مشاهد من اقتحام السفارة، وكانت تحت عنوان “المؤمنون يحتلون سفارة خامنئي في لندن، ويرفعون علم خُدام المهدي عليهم السلام”.
مما يُزيد الوضع تأزُمًا هو انتثار رقعة الشيرازيين في العديد من البُلدان المجاورة لإيران، مثل، العراق ولبنان وسوريا وباكستان وأفغانستان.
وقد خرج أتباع التيار الشيرازي في العراق محتجين أمام القُنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء مُطالبين بإطلاق سراح حُسين، ولم تكُن كربلاء وحدها بل شملت الاحتجاجات مدن عراقية عدة، كما خرجت المظاهرات في دولة الكويت أيضًا لنفس الهدف.
نظرة تفسيرية
سيجنح النظام في إيران نحو الحفاظ على استتباب الأوضاع كعادته، وألا تُثارُ ثائرة الشيعة ضده، عبر القلاقل التي من الممكن أن يُثيرها الشيرازيون داخل البلاد على إثر موجة الاعتقالات التي تُوجّه لرؤوس تيارهم وقادتهم.
ولكن النظام يحاول استثمار الحادث ويُوظفه في أهدافٍ سياسية، فيحاول إلحاق أكبر قدر من الأذى في دول الاتفاق النووي على إثر محاولاتهم الانصياع لرغبة ترامب في تعديل الاتفاق النووي مع إيران، وتشديد الاتفاق وتغيير محتواه بما يُزيِد من حجم الأعباء الواقعة على إيران.
كما يحاول استثماره في التنويه إلى جماعات المعارضة وشُخُوصهم الذين تعُج بهم بريطانيا، في إشارةٍ إلى رغبة إيران في أن تقُم بريطانيا بإخراجهم من أراضيها.
قد تؤدي موجات هذا المدّ من الهجوم الإيراني على بريطانيا، والتي ظهرت في تأويل الحادث برؤيةٍ إيرانيّة خاصة، وسيل من التصريحات الهجومية على بريطانيا ونظامها، إلى وقوع أزمةٍ دبلوماسيّةٍ بين البلدين، لاسيما أن الحادثة قد تقع بصُورةٍ طبيعية لللغاية كما يحدث في مثل هذه الحالات من التظاهرات والاحتجاجات التي تُقاَم بجوار القُنصليات والسفارات حول العالم، ولكن هذا الأمر لا يتكرر كثيرًا فكان لا بُد من حُسن استخدامه.
وهُناك سبب بارز أيضًا، وهو أن إيران كانت قد اتهمت بريطانيا، في نهاية شهر شباط /فبراير الماضي، عبر المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، بأنها غير صادقة في تعاملها مع أزمة اليمن، وأنها ترفع شعارات الحل السلمي وتستخدم آلياتٍ دولية للدفاع عن المعتدي.
وذكر أن إيران ترى سلوكًا غير صادق من جانب الحكومة البريطانية، وأن ما يحدث في اليمن هو نتيجة تصدير بريطانيا السلاح إلى المملكة السعودية وهذا التصرف غير مقبول.
فكيف سترد بريطانيا على تصريحات مسؤولي إيران الهجومية؟. هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.
المصادر