تبين أنه من المُستريِب والغريب والعجيب في الوقت ذاته، أن هُناك روايةً جديدة تُسرَد في أروقة الإعلام الإيراني الموالي للنظام الإيراني تُخالف وتضرب بعرض الحائط كافة الوجهات والرُؤى التي استعرضناها في الجزء السابق من وُجود تنسيقٍ تام بين الجانبين الإيراني والروسي بخصوص إسقاط الطائرة بل ما هو أبعد من ذلك فقد شمل الأمر الملف السُوري برُمته.
وهذا ما يُوحِي بأن ما تعج به الحالة الإعلامية الإيرانية تُشير بإصبعها إلى أن هذا هو صوت النظام نفسه، والذي لا يريد أن يعبر عنه بصورةٍ رسمية حتى الآن، ويترك المجال لإعلامه لتعبئة الرأي العام بصدده، وهو ما مفاده أن إيران باتت على خلافٍ ظاهر وجليّ مع روسيا.
جدير بالذكر أن الصحافة الإيرانية الرسمية هي الأُخرى شنت، خلال الأسابيع الماضية، هجومًا حادًا ضد روسيا فيما يتعلق بالملف السوري.
نُظهِر حالتين بارزتين لمقصودنا هذا:
موقع “عصر إيران”، المُقرَّب من الحكومة الإيرانية، نشر تقريرًا حول الدوافع الأساسية التي تقف وراء إسقاط المقاتلة الإسرائيلية بنيران النظام السوري، بالإضافة إلى ما نشره مركز الدراسات الدبلوماسية الإيرانية التابع للخارجية، تحليلًا للموقع عن هذه الحادثة.
قال فيه أن هناك خلافًا بين إيران وسُورية من جانب، وروسيا من جانبٍ آخر حول معركة عفرين. وأن ضآلة الفارق الزمني بين إسقاط المقاتلة الإسرائيلية، وعملية غصن الزيتون التركية في عِفرين، المُقدَّر بثلاثة أسابيع. وأن الصفقات التي تمت وراء الكواليس في إشارةٍ غير مباشرة إلى وجود صفقة بين روسيا وتركيا. كانا عاملان تدخلان بقُوة في إسقاط الإف 16 الإسرائيلية.
إذ أن إيران تؤمن أن روسيا أعطت ضوءً أخضر لتركيا -دون اهتمام أو إعارة إيران أي انتباه- للقيام بعملية غُصن الزيتون في مدينة عِفرين. رُغم الاتفاقيات المُبرَمة مع تركيا بإبعاد عملياتها العسكرية عن سُورية، مما يعني بالضرورة قدمًا تركية بسُورية، وبالتالي دعمت وشاركت إيران سُورية في إسقاط المُقاتلة الإسرائيلية.
وأن إيران حاولت عبر هذه العملية، إيصال رسالةً للروس بألا تستفرد بالنفوذ والتأثير والقرار في سُورية ومستقبلها، وأن على روسيا تقبُل الدور الفاعل والحقيقي لإيران في سوريا.
موقع “تابناك”، المقرب من المرشد الإيراني، علي خامنئي، شنّ هو الآخر هجومًا غير مسبوق على روسيا، أظهر في تقريرهِ خيبة أمل الإيرانيين من سياسة روسيا في سوريا، وأنه تم خِداع الإيرانيين بشكلٍ سيء. ترجم التقرير موقع “عربي 21″، وأسرد التقرير نقلًا عن الموقع: “أنه رُغم إتاحة منابرنا الإعلامية العالمية في خدمة الروس، فإننا بنفس الوقت نسمع بأنهم قلّموا دورنا، وجمّدوا أيّة مساهمة أو مشاركة إيرانية في إعادة إعمار سوريا مستقبلًا”.
وأنه وفقًا للاتفاق الذي تم بين الحكومتين الرُوسية والسُورية، فقد تم استبعاد إيران وشركاتها كاملةً من عملية إعادة الإعمار والاستثمار في سوريا، وأنه إذا أرادت إيران الدخول في عملية الإعمار فلا بُد أن تدخل مباشرةً في مفاوضات مع الروس أنفسهم. وهذا ما أثار حفيظة إيران.
وأكد الموقع أن “هذه ليست تكهُنات إعلامية، بل أصبح ملفًا مربكًا لإيران، وأثار حفيظة الحكومة، وطُرِح هذا الملف داخلها، وأصبحت إيران تشعر بالقلق البالغ حول هذا الاتفاق الذي همّش دورها بسوريا”.
وفتح الموقع النار على روسيا ونظامها بقُوة، وعدّد ما جنته إيران من مثالب ومساوئ وخسائر من الشراكة مع الجمهورية الروسية. إذ ذكر أن لا أحد يتحدث عن إرغام إيران من قِبل روسيا نفسها على توقيع الاتفاق النووي مع الغرب. في الوقت الذي ساعدت فيه روسيا نفسها الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، في القرارات والعقوبات التي فُرِضت على إيران. وذكروا أنه في ذُروة وعِز هُجوم إسرائيل على إيران وتهديدها الدائم لها رفضت روسيا تسليم نظام S-300 الدفاعي إلى إيران رغم استلامها ثمن الصفقة. وتابعوا أن روسيا تركت إيران وحدها في الأمم المتحدة ووافقوا على فرض العقوبات الاقتصادية على إيران. كما أضافوا أن روسيا كانت تكافح لجني ثمار التدخل لاستنزاف إيران في سوريا، واليمن، بالإضافة إلى جلوسهم مع المملكة السعودية واتخاذهم موقف مؤيد وداعم لها في هذين البلدين.
بل أن الأمر وصل بالموقع إلى أنه أعاد استحضار أحداثٍ تاريخية من الماضي القريب، وذكر أن روسيا قدّمت دعمًا لوچستيًا وعسكريًا لنظام الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، خلال الحرب العراقية-الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات. إذ أن طائرات صدام حسين عندما كانت تنتهي من قصف الإيرانيين، كانت تتوجه إلى روسيا لتُهيِئ مجددًا، وتُمَّد بالوقود والسلاح لتنطلق نحو وجهتها في إيران مجددًا؛ لقتل الإيرانيين.
تشُن إيران بهذا هجومًا جامع على روسيا، وعلى أن هذه الشراكة أصبحت تجني خسائر أكثر منها لتحقيق المصالح، وأن قضية طائرة الدرون الإيرانية، والأُخرى الــF16 الإسرائيلية، أظهرت بصُورةٍ جليّة أن روسيا لا تعبأ سوى بمصالحها الخاصة، وأن كل ما عداها لا أساس له ولا اهتمامَ به. وهذا ما أجبر إيران في ظِل هذه الرواية إلى السير والتغريد بصُورةٍ منفردة قليلًا عن سِرب الشراكة هذا، وضربت الطائرة الإسرائيلية وأسقطتها دون علمٍ روسيٍّ سابق.
قد يكون مما دعم وجهة النظر الإيرانية هو الرد الجاف لموسكو على الأحداث إجمالًا، فقد دعت وزارة الخارجية الروسية جميع الأطراف لممارسة ضبط النفس، وتجنُب تصعيد الوضع. وعبرت موسكو في بيانٍ لخارجيتها عن قلقها إزاء التطورات الأخيرة في سوريا، محذرةً من أي إجراءات من شأنها تعقيد الوضع بدرجةٍ أكبر. وأنه من غير المقبول بتاتًا تهديد حياة الجنود الروس المتواجدين في الجمهورية العربية السورية للمساعدة في الحرب ضد الإرهاب، ثم تلا ذلك ضرورة احترام سيادة وسلامة الأراضي السورية وغيرها من البلدان في المنطقة دون شروط.
أين إيران في البيــان إذًا؟
إن هذا البيان تصفه صحيفة The Daily Beast، بأنه نموذج يُدرَّس على ازدواج الدبلوماسية. لم يشتمل سُوى على حياة جنود الرُوس، واحترام سلامة وسيادة دول المنطقة، آخذين في الاعتبار أن دول المنطقة هذه كلمة مُؤطَّرة بدرجةٍ كبيرة، فدول المنطقة كلمة تشمل إسرائيل، ولكنها ليس بالضرورة أن تشمل الجمهورية الإيرانية. بل ما هو أدعى وهو أنه أظهر وكأنه ليس هُنالك اهتمام روسي مباشر ببشار الأسد.
كما أن هذا قد يحمل معنى أنه لم يكن جديرًا بإيران أن تُرسِل طائرةً مُسيَّرة إلى الأجواء الإسرائيلية -السُورية المحتلة- من الأساس، رُغم عِلم روسيا بقيام إيران بهذا النشاط. وهذا ما سيُشعِل فتيلًا جديدًا يُفجِر الأوضاع بين روسيا وإيران بصورةٍ أكثر إبرازًا مما قد يُنهِي هذه الشراكة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أثناء زيارته إلى موسكو، في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي، كان يقف إلى جانب الرئيس الروسي، وصرّح قائلًا: “أعتقد أنَّ أهم شيء، هو التأكُّد من أننا نفهم بعضنا البعض، وألَّا نُسقط طائرات بعضنا البعض. وقد قرَّرنا القيام بما جاء في اتفاقية التنسيق، ما يعني عدم إطلاق النار على بعضنا البعض. وأسَّسَنا آليةً للقيام بذلك، وهذه الآلية هي آليةٌ آمنة”.
المُحلل العسكري لدى صحيفة هآرتس الإسرائيلية، تسفي برئيل، صرح قائلًا: “أنه يمكن الكشف عن التصدُّعات المُتنامية في الافتراض العملي بأنَّ روسيا تسيطر على كل التحرُّكات العسكرية والدبلوماسية في سوريا”.
وأضاف قائلًا: “إذا كان ذلك، فإن روسيا لم تكن قادرةً على منع تركيا من غزو شمال سوريا، وفشلت في تحويل مؤتمر سوتشي نهاية شهر يناير/ كانون الثاني 2018 إلى خطوةٍ مهمة نحو التوصُّل إلى وقفٍ شامل لإطلاق النار والتفاوض بعد ذلك على تأسيس حكومةٍ انتقالية، ولم تتعامل أيضًا مع انتشار القوات المدعومة إيرانيًا في جنوب سوريا، بطريقةٍ قد تخفِّف المخاوف الإسرائيلية”.
فلجأت إسرائيل إلى حُلُولها الذاتية لفض الموقف، مما أشارت إليه صحيفة The Daily Beast، أن آلية تنسيق الأعمال العسكرية بين إسرائيل وروسيا قد انهارت. وهذا ما يذهب برُجحان وجهة النظر الأولى في التقرير السابق والذي أشرنا فيه أن إسرائيل توجهت للقيام بهذا التدخُل الجوي دون إعلام روسيا، وقد أشرنا أيضًا أن هذه الرؤية كانت لا تقوم أمام الرؤية الثانية، وأكدنا حينها أنها محل نقاشٍ بقُوة، ولكن دومًا ما يُبدِّد نتنياهو هذه الرؤية، ليخرج إلى وسائل الإعلام سريعًا مُعلنًا أنه أخبر بوتين، وأنه مُبقيًا على الأصل العام والثابت الذي اتفق عليه معه وهو أن إسرائيل ستدافع عن نفسها ضد أي عدوان وأي محاولةٍ لانتهاك سيادتها كما تزعُم.
كم أصبح الأمر شديد التعقيد عقب إسقاط الطائرة الإسرائيلية، وأبرز العديد من الأمور على السطح بي إيران وروسيا وإسرائيل كانت مُخبأة ومطمورة أسفل تراكمات الأنقاض الُمهدّمة، والدماء المسفوكة، والأشلاء المُمزّعة، ومستقبل وطنٍ تائه تتنازعه كُل هذه القُوى.
رؤيا إيران حول روسيا أصبحت أكثر تذبذُبًا، ولا تشهد أي شاطئ ترسو عليه، وإسرائيل هي التي سبَّبت كل هذا، ولن تُصبِح روسيا تقريبًا بعد الآن تملك الآلية التي تجعلها تُوقِف هذا الاحتدام الناشئ بصورته الرسميةبين إيران وإسرائيل، ولكنها ستواجه بأقصى قُوة أية محاولات تُهدِّد نفوذها في سُورية.