الباحثان توني بدران، وجوناثان ستشانزر، نشرا مقالا لهما على جريدة “وول ستريت جورنال” أسردا فيه أن الصراع بين إسرائيل وإيران ربما “بدأ بالاشتعال بعد نصف قرن من التسخين على حرارة دافئة”.
كما يذكر الباحثان أمرا شديد الأهمية، وهو أن إسرائيل كانت تعمل على تحجيم واحتواء المد الإيراني في سُورية ، منذ أن انسدل جنودها ووكلاؤها على سُورية، وأرسلوا أسلحة ومعدات عسكرية إلى النظام السُوري، ودشنوا قواعد عسكرية ومحطات إمداد ودعم لوچيستي له منذ 6 سنوات. وليس هذا فقط بل أرسلوا الأسلحة المتقدمة لحزب الله في لُبنان عن طريق دمشق أيضا تحت غطاء الحرب.
هذا التحجيم كان يتم عبر توجيه ضربات استباقية قائمة على دراسات ميدانية لأهداف سورية وإيرانية في الداخل السوري في أزمنة متفرقة، ومناطق مختلفة، وكان على سبيل المثال، الضربة التي وُجهت في ديسمبر/كانون الأول، لقاعدة عسكرية إيرانية، في الجنوب الغربي من دمشق، على بعد 30 ميلا من هضبة الجولان.
ذكر الباحثان أن هذا الاشتعال الذي تفجر بغتة إنما يعد أبرز مواجهة بين إسرائيل، وما يُسمى بـــ”محور الممانعة”، والذي يتشكل من إيران وحزب الله في لُبنان ونظام الأسد في سُورية.وأن هذه المناوشات قد تُنبئ بتفجُر الأوضاع إيذانا لأسوأ حرب قد تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
ترى إسرائيل أن طائرة الدرون الإيرانية الأخيرة، كانت استمرارا في موجة الاستفزاز الإيراني لها، لأن هذه الطائرة لم تكن الأولى التي تنطلق وتخترق أجواء الجولان المحتل. ففي العام المنصرم قامت الدفاعات الجوية الإسرائيلية باعتراض طائرات بدون طيار عدة، إيرانية الصنع، أطلقها حزب الله من سُورية.
كما تتحدث إسرائيل عن قاعدة T4 أو التيفور، التي هي نقطة انطلاق مثل هذه التهديدات لها، كما أنها كانت سابقا موطنا لمُقاتلي فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. وزار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، روسيا أكثر من مرة لمناقشة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين حول أنشطة إيران وهذه القاعدة ووكلائها في المنطقة.
هل كان هُناك إذن روسي؟
يُعد هذا الحدث أكثر الأمور تعقيدا في سلسلة الأحداث التي تفجرت على حين غرة بين الجانبين الإيراني والإسرائيلي على الأراضي السُورية.
هل أبلغت إسرائيل روسيا سابقا قبل إطلاق هجمة طائراتها الــF16 الثمان التي ضربت 12 عشر هدفا إيرانيا وسوريا؟ أم أن كان هذا أمرا إسرائيليا بحتا وتم بعفوية. وفي السياق ذاته من الأحداث طائرة الدورن الإيرانية التي جالت في أجواء الجولان، وصاروخ سام 5 الذي أسقط الطائرة المُقاتلة الإسرائيلية، هل كانت روسيا على علم بهما؟.
هذا في ظل أن إسرائيل لم تُبد سببا واضحا حول ماهية تسلُح هذه الطائرة الإيرانية أم لا، وأن الاستجابة الإسرائيلية والتعامُل مع الطائرة سيكون مفاجئا أن تقوم إسرائيل بالرد على طائرة بدون طيار غير مُسلحة، كما ذكر التقرير.
لا شك أن الأمر الجامع الذي يُمكن أن يُتفَق عليه هو أن الغارات الإسرائيلية قد تسببت بنوع من الأزمة مع موسكو، كما أن هُناك أمرا هاما آخر وهو أنه ليس هُنالك ثمة شيء يتم على الأرض السُورية دون معرفة الجانب الروسي، الذي أصبح يتسيد الأمر برُمته مع حُلفاء آخرين، ولا عزاء لبشار الذي هو ظل على كُرسيه.
كانت وجهة النظر الأولى تدور مع الباحثين توني بدران، وجوناثان ستشانزر، اللذين ذكرا في مقالهما،أن إسرائيل لم تُحذر روسيا سابقا حول الهجوم لا سيما أن العسكريين الروس يختلطون أحيانا مع وحدات الدفاع الجوي السوري، ويتواجدون أحيانا، في قاعدة التيفور، ولذلك نظر الروس أن تكون في هذه الضربة رسالة لهم، بنفس القدر التي كانت فيه هذه الضربة رسالة لمحور الممانعة الإيراني المُوسع.
كما أن الباحثين لم يستطعا التبيُن أو التيقُن من ماهية معرفة روسيا سابقا بعمليات الطائرة بدون طيار الإيرانية. ونفس الأمر ينطبق على إطلاق صاروخ سام 5 أو S200 الأرض جو الذي أسقط الطائرة الإسرائيلية. ولكن كانت هذه هي المرة الأُولى التي استطاعت فيها الدفاعات الجوية السورية إصابة طائرة إسرائيلية، وبدقة متناهية، مما يُشير إلى تورُط روسي واضح، سواء في التنفيذ أو الإنفاذ أي السماح لسُوريا بالتعامل العسكري مع الطائرات الإسرائيلية هذه المرة.
وبالتالي كانت وجهة النظر الثانية، التي تناقش أنه طالما تعلم روسيا كل روحة وغدوة على الأراضي السُورية، ومعرفتها أن إسرائيل تُحلق بصُورة شبه دائمة على الأراضي السورية لجمع المعلومات الميدانية، فروسيا قد أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل للقيام بهذه الضربات والغارات التي شنتها الطائرات الإسرائيلية لضرب أهداف سُورية وإيرانية بالأخص منذ ما يزيدُ عن عامين.
وهذا ما يُفسر سلبية التعامل الروسي مع الأمر، وعدم اكتراثها بالضربات الإسرائيلية سواء التي كانت مستمرة منذ عامين، أو التي أعقبت إسقاط الــ “F16”.
إسقاط الطائرة هو الأمر الذي فجر غضبا إسرائيليا عارم، لاسيما بعد إمطار كتائب الدفاع الجوي التي تُسيطر عليها المليشيات الإيرانية الطائرات الإسرائيلية، والأراضي الحدودية بين الجانبين الروسي والسُوري، بعدد هائل من الصواريخ التي لم تكُن لتستخدم من ذي قبل.فلم تتردد إسرائيل في إطلاق موجة أخرى من الغارات الجوية خلال ساعات، عقب إسقاط الطائرة، ضد أهداف كثيرة منها ما رُصد على مدى أشهر.
أكد المحلل السياسي الإسرائيلي، الحنان ميلر، عن أن نتنياهو سارع للاتصال بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لمنع التصعيد لعلم إسرائيل التام بأن من يمتلك القرارات الاستراتيچية في سوريا كما أسلفنا هو بوتين.
جدير بالذكر أن نتنياهو زار موسكو تسع مرات، منذ دخول روسيا لسُوريا عام 2015، وحصل على حرية حركة لطائراته فوق سوريا كما ذكرنا سابقا.وهذه كلها تأكيدات تأتي ضمن إطار خضوع إسرائيل للأمر الروسي في سُورية.
هذا السياق هو ما قد أشار إليه مُحللون إيرانيون وإسرائيليون، وكذلك المحلل الاستراتيچي الروسي، فاتشسيلاف ماتزوف، في حديثه مع قناة الجزيرة، إلى معنانا هذا، وهو أن “روسيا أعطت الضوء الأخضر للنظام السوري لإسقاط الطائرة الإسرائيلية”.
وأضاف أن موسكو استخدمت إسقاط الطائرة الإسرائيلية كــ “صُندُوق بريد”، وجهت من خلاله رسالة للولايات المتحدة مفادها أن قواعد اللُعبة في سوريا تغيرت، وهذا على إثر تمرير أمريكا صواريخ مضادات للطائرات، لمن وصفتهم روسيا “إرهابييــن”، والذين تمكنوا من إسقاط طائرة السوخوي 25 الروسية، فوق إدلب، مطلع هذا الشهر، بالإضافة إلى انزعاج موسكو من الغارة الأمريكية على الحشد الشعبي السوري، في مدينة دير الزور، منذ عدة أيام، الغارة التي أسقطت أعدادا هائلة من القتلى والمُصابين.
وتضمنت معلومات غير رسمية عن سُقوط أعداد لا يُستهاَن بها من الجُنُود الروس -قُدرت من بعض التقارير أنها تتراوح من 100 / 300 جندي روسي ما بين جريح وقتيل- على يد الطيران والمدفعية الأمريكية التي أفنتهم عن بكرة أبيهم، وهو الأمر الذي فجر عاصفة تحليلات وأبحاث ونقد في روسيا طال النظام الحاكم ذاته من قبل معارضيه، والمهتمين بالشأن السُوري حتى هذه اللحظة، حول كيفية حدوث هذه الضربة.
ليس هُناك من هو أسعد بهذا الأمر سوى إيران، والتي أصبحت تتيقن من تغيُر الأمور والمعادلات والأوضاع والتفاهمات، بين الجانبين الروسي والأمريكي، وإيران تُدعم هذا التغيير في المعادلة.
وهو ما يفتح الباب أمامها لتوطيد نفوذها في سُورية، مع علم روسيا أن إيران هدفها الرئيس هو أنها تُريد أن تُوتد أقدامها في إيران نكاية في إسرائيل، وفتح الباب أمامها لإحداث أكبر ضرر لإسرائيل في المنطقة من خلال الحدود السُورية، وهو أمر لا يُضجر روسيا طالما لن يُؤثر بالسلب على الوضع الذي تريده روسيا في سُوريا.
الخبير الإيراني في القضايا الإقليمية، حسين ريوران، في حديثه للجزيرة، ذكر أن إيران أكدت أن من أسقط الطائرة الإسرائيلية هو النظام السوري، إلا أنه لا يُمكن القول أنه لم يكُن هُناك تنسيق روسي / إيراني / سوري حول ماهية الرد، وطريقته.
يأتي أيضا عاملا هام، وهو أن منظومات الدفاعات الجوية السُورية الروسية، اختفت عقب إسقاط الطائرة الإسرائيلية، ولم تُطلق مجددا على الطائرات الثمان التي ضربت في حمص، وقُرب تدمر، وفي الجولان. وهو الأمر الذي رجحه المحلل العسكري، رياض كريشان.
وهذا ما يُرجح وجهة النظر الثانية قليلا على الوجهة الأُولى. ولكن هذا ليس عامل حاسم يقضي على وجهة النظر الأُولى بالكُلية في ظل وُجُود العديد من البواعث التي تُشير إلى رُجحانها هي الأُخرى وأنها محل نقاش بقُوة. وهذا ما يُفيد بأن قواعد الاشتباك شهدت تغيرات ستُلقي بآثارها على الموضوع برُمته.