عرضنا في الجزء الأول، ماهية التيار الشيرازي، وصفاته كتنظيم ومرجعية أصبح لها دورًا فاعلًا في الواقع الشيعي، وأضحت تتموضع في خريطة الشيعة بقُوة، وعرضنا كذلك صفات التنظيم، وسمات أبنائه، وتأسيسهم الأول، وأبرز أبنائه ورموزه وقادته.
لكن تظل الشيرازية الإيرانية حالةً خاصة، إذ أن التيار الشيرازي ما أصبح مرجعية وصار له قدم في الوسط الشيعي، إلا عبر إيران والثورة التي قدمت الهُويّة الدينية والمذهبية الشيعية على رأس ثورتها تلك، فكانت الحافز الذي أحيا كافة المجموعات الشيعية في المنطقة.
الشيرازية في إيران
تدفق الشيرازيون للفضاء العام في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، على إثر تأسيس “منظمة العمل الإسلامي” على يد وبإشراف وتحت رعاية الإمام / محمد الشيرازي، في الجمهورية الإيرانية، في 13 نيسان / أبريل 1979، بإشراف الإمام وقد تولى قيادتها السيد محمد تقي المدرسي، وكان الناطق الرسمي باسمها الشيخ محسن الحسيني، وكان من قيادييّها السيد هادي المدرسي، والسيد كمال الحيدري.
وقد كان للشيرازيين دورًا كبيرًا في الثورة الإيرانية، وقاموا بمساندة الخُميني، حتى أنهم نصبوا المشانق في شوارع “كلبندك” لمُعارضي الثورة؛ آملين من الخُميني وأنصاره في أن يوفروا لهم جبهة معارضة ضد الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين. وبالتالي حظي وتلقى الشيرازيون دعمًا هائلًا وغير محدود من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمختلف جهاتها ومؤسساتها مثل قوة الحرس الثوري الإيراني، وظهر هذا الدعم بصُورةٍ جلية خلال الحرب العراقية – الإيرانية.
وقد أقام معظم قادة الشيرازيين في إيران لفترةٍ طويلة. وتولى مهدي الهاشمي -وهو شقيق صهر الشيخ آية الله منتظري هادي الهاشمي- رعاية الشيرازيين وتقديم الدعم المادي والمعنوي والإعلامي المتمثل في مجلة “الشهيد” الصحفية. وكان هذا العمل يتم عبر “مكتب دعم حركات التحرير” والذي تأسس بدعمٍ من الحرس الثوري الإيراني.
الشيرازيون أصبح لهم دورًا فاعلًا في الداخل الإيراني، وتغلغلوا في المؤسسات الإيرانية، وتمددوا بالأجهزة الأمنية الإيرانية كونهم في الغالب إيرانيين وُلدوا بكربلاء ويحملون الجنسيات الإيرانية. وبات لهم نُفُوذ اقتصاديّ مؤثر إذ إنهم باتوا يملكون نصف بازار طهران، كما أنهم يجمعون ملايين الدولارات من أنصارهم بالخليج.
دبيب الخلاف يسري ويتعاظم
رُغم ما قدّمناه من مظاهر التآلف بين المرجعية الشيرازية والخُمينية ثم الخامنئية، ولكن هذه كانت رُقاقة مُذهَبة تُغطِي حجم الصراع الدائر بين المرجعيتين، وحجم الخلاف العقدي الهائل بينهما.
يدور صراعٌ عقديّ يظهر بصُورةٍ جلية في عدة مناحٍ أبرزها، رفض المرجعية الخامنئية بفتوى من علي خامنئي لعقيدة أو طقس التطبير -وهو ضرب الأجساد والرؤوس بالسلاسل والآلات الحادة حتى تصل إلى الإدماء- وهو ما يُعتبر عقيدة رئيسة في التيار الشيرازي، وقد رفض الشيرازيون الانصياع لهذه الفتوى.
أيضًا تمثلت دعوة المرجعية المذهبية الحاكمة في إيران، وهي عدم إظهار صُورة صراع بينهم وبين السُنّة، كما تُوجِه دومًا دعوات للانفتاح على العالم السُنّي، ويتأتى هذا عبر عدم النيل من الصحابة وأُمهات المؤمنين رضوان الله عليهم جميعًا، والذين يمثّلون لدى أهل السُنة أحد مصادر التلقي الهامة لأمور الشريعة والدين. وقد ظهر هذا في حظر طباعة أجزاء من كتاب “بحار الأنوار”، للشيخ محمد تقي المجلسي، والتي تشتمل على كلماتٍ مسيئةٍ للخلفاء الراشدين.
يشُن الشيرازيون هجومًا شرسًا على عقيدة “التُقية” -التي يتلبس بها الشيعة وبالأخص الاثنا عشريون، وهي تتمثل في التخفي العقدي وعدم إظهار التديُن بالشيعية، وهي تُصبِح فريضة في حالة الاستضعاف والخوف على النفس والمال والأهل-.
وأكّد الشيرازيون أن الشيعة لم يُصبِحوا في محل استضعاف ولا هوان، وأنه قد انتهى عصر ذلتهم، لاسيما أن المذهب الشيعي انتثر في دولٍ آسيويةٍ عدة، وأصبح واضحًا بصورةٍ رئيسة في دُول الهلال الخصيب، حتى إنه ذهب إلى أن صار مذهب الدولة كما في إيران، وأنه لا بُد من إعلان عقيدة البراء، والمفاصلة في العقيدة، وعدم إظهار المواءمة أو التماهي مع أهل السُنّة في أمور الدين.
وقد لعب الشيرازيون على هذا الوتر، وغذَوه في قُلُوب العوام، وقد أظهروا أنهم حُماة المذهب عن مرجعيات إيران، وامتد الأمر بهم حتى أصبحوا حاكمين ومقررين على المذهب بل وبقية المذاهب لتقييم رموزها وعقائدها، وانسدلوا على كافة الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما أوغر صدر المرجعيات في إيران.
نُضيِف إلى هذا أيضًا، غُلو الشيرازيين في ممارسة الطقوس التعبُدية حسب المذهب الشيعي، فعلى سبيل المثال يحتفل الإيرانيون بذكرى انتصار ثورتهم عبر “عشرة الفجر” -وهي الفترة الواقعة ما بين وصول الإمام الخميني من باريس، إلى طهران وحتى سقوط الشاه-، فابتدع الشيرازيون عشرياتٍ متعاقبةٍ أطلقوا عليها مسمّيات لها وقعها في الوجدان الشيعي، مثل، العشر الفاطميات، والعشر الزينبيات.
مثال ثاني، مناسبة عاشوراء، والتي كانت تقتصر على عشرة أيام، ففي أواخر الثمانينيات وسّع الشيرازيون من المدى الزمني للمناسبة فجعلوها تبدأ وتنتهي بشهر صفر ، وأزادوا من حجم الطقوس المُضمَّنة فيها فأوجدوا طقوسًا جديدة مثل المشي على الزجاج، وتطبير الذراعين، والتوسّع في تمثيل واقعة كربلاء في المجالس بارتداء أزياءٍ غريبة باللونين الأخضر والأسود، وحمل أخشاب تعلوها أضواء وشموع بأشكالٍ مثيرة، واستخدام الدفوف والرقص بضرب الأرجل على الأرض، وتقمُّص شكل الإمام عليّ في هيئة أسد يحضر إلى كربلاء لإنقاذ ابنه الحسين، وفي ختام المناسبة يتم إقامة فرح بمقتل الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب.
وتُقاَم مثل هذه الطقوس في أماكنٍ مغلقة كون الحكومة الإيرانية تمنع هذه الممارسات وتعاقب عليها عبر تدابيرٍ دينية رسمية تمنع التمادي في المناسبة العاشورائية شكلًا ومضمونًا.
مثال ثالث، في رد فعل على إعلان “أسبوع الوحدة”، في إيران، في عهد الإمام الخميني؛ والمخصَّص لتعميم ثقافة الوحدة بين المسلمين، أعلن الشيرازيون هم الآخرون “أسبوع البراءة” الذي يدعو للبراءة من الخلفاء الثلاثة الأُول.
مثالٌ رابع، أزادوا من البدع في صميم عقيدتهم، عبر تخصيص مناسبةٍ إحيائيةٍ خاصةٍ لكل إمام، وأيضًا لفاطمة الزهراء، وزينب بنت عليّ، وأُم البنين زوج علي بن أبي طالب، وتستغرق كل مناسبة أياماً عدّة، ثم توسّعت مجددًا ظاهرة الإحياء لتشمل الصحابة مثل وفاة سلمان الفارسي، وعمار بن ياسر. رضوان الله عليهم جميعًا.
وفرض الشيرازيون سطوة خطابهم، ونفوذهم الديني على أجنحة إيران في المنطقة، كحزب الدعوة الإسلامية في العراق، وحزب الله في لبنان، واحتكروا الخطاب الديني بحوزة مرجعياتهم، ولك أن تتخيل أن علماء الدين الشيعة الأُول باتوا يبذلون جُهودًا مُضنيةً في مواجهة المدّ الخطابي الشيرازي الشيعي، والبِدع والمستحدثات التي أدخلوها على صحيح دينهم كما يدّعوا!.
وقد استغل الشيرازيون عوامل عدة للانقلاب على المرجعية الأُم في إيران، وهي التي كانت منذ الأمس القريب رافعة ودعامة وقف عليها التيار الشيرازي بجُملتهِ ليتنفسوا الصُعداء ويعمّموا رسالتهم التي دومًا ما كانوا يحلمون بها.
الأول، استغلوا المواجهات المسلّحة الدائرة على الساحة السورية والعراقية، بين حزب الله والفصائل الشيعية العراقية من جهة، والجماعات السلفيّة من جهةٍ أخرى وكانت أبرزها تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النُصرة.
والثاني، ألا وهو رغبة عموم الاثنا عشريين في رفع التُقية عنهم، وإعلان البراء من رموز أهل السُنة، وإعلان تضادهم وتعارضهم معهم، في ظل التمكين الذي حازوه، وزوال أزمنة الاستضعاف عنهم. هذان العاملان ساهما في تعزيز الميول التقليدية، وتأكيد الهوية الشيعية في شكلها التقليدي لدى الشيعة والتي تبنّاها الشيرازيون.
في عمودٍ لأحد الكتاب على جريدة الأخبار ذكر قائلًا: “لا ريب في أن النموذج الشيعي الذي يجرى تعميمه حاليًا -قاصدًا النموذج الشيرازي- ليس هو المسؤول عن صنع الثورة، بل على النقيض تمامًا هو نفسه الذي حاربه منظّرو الثوّرة في المجال الشيعي أمثال محمد حسين النائيني، ومهدي الخالصي، وعلي شريعتي، وروح الله الخميني، ومرتضى مطهري، ومحمد باقر الصدر، ومحمد حسين فضل الله.
أخيرًا، فإن تحويل التشيّع من فكرةٍ ثورية إلى ممارسةٍ طقسية يجعله عُرضةً لاختراقٍ واسع من أفكار الغلو والتراث الحشوي الذي اشتغل محقّقو الشيعة على الحدّ من تأثيراته على الحركة الفكرية الشيعية، ويخشى أن تؤسس النزعة الطقوسية الى خروج التشيّع من التاريخ بعد أن دخل إليه بطريقةٍ ثورية”.
لم تتوقف أُمور التقارُع والاحتداد بين الشيرازيين من جهة، ومرجعية خامنئي من جهةٍ أخرى، عند الأمور العقدية، بل امتدت إلى ما أكثر من ذلك.
فقد وجّه النظام الإيراني ضربةً شديدة القوة والتأثير للشيرازيين، عبر إعدام النظام الإيراني، عقب الحرب العراقية الإيرانية، للسيد مهدي الهاشمي لدوره في كشف “إيران-جيت”، وهي فضيحة إمداد الولايات المتحدة الأمريكية للنظام الإيراني بالأسلحة والذخيرة في حربه على العراق.
ثم ظهر شيئًا جديدًا على السطح، إذ ألقى الشيرازيون الاتهام على المخابرات الإيرانية بقتل السيد محمد الشيرازي المؤسِّس، وخطف جنازته، ودفنه في مدينة قُم المقدسة، بخِلاف وصيته التي أوصى فيها بدفنه في وطنه بالعراق وبالتحديد في كربلاء.
ثم اتهم الشيرازيون النظام الإيراني مجددًا بقتل نجله، محمد رضا الشيرازي عبر دسَّ السُم له، وأعقب ذلك زيادة التوترات بعد أن مارس النظام التضييق على الشيرازية في الحوزة العلمية بمدينة قُم.
ما بعد تظاهُرات ديسمبر
قامت السلطات الإيرانية باعتقال حسين الشيرازي، نجل المرجع صادق الشيرازي، بسبب خطبةٍ ألقاها أحد الأساتذة في حوزة السيد صادق الشيرازي في قُم.
رجل الدين هذا، ظهر خطيبًا في أحد المقاطع الوسائطية وهو ينتقد في خطبتهِ تعبئة الشباب بدعاية “الدفاع المقدس”، وهو ذلك الشعار المُستخدَم من قِبل الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، كعنوانٍ للقتال في سورية دعمًا لنظام بشار الاسد.
بينما أظهر موقع “ميكروفون نيوز”، أن حُسين شيرازي اعتُقل على إثر إلقائه نفسه خطبةً وصف فيها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي بأنه “فِرعــــونْ”، ونشر الموقع صورةً لمذكرة الاعتقال.
يظهر في إطار هذا العرض الواسع منذ بداية نشأة الشيرازيين وانتهاءً إلى هذا الموقف الأخير، أنه رُغم الاتفاق المذهبي، فلم تكُن الأُمور تسير بصُورةٍ جيدة، إذ إننا أشرنا سالفًا أن المرجعية الشيعية في إيران والنظام الحاكم لا يقبل بمن يعمل معه إلا وهو ينضوي تحت لوائه ويُذعِن له بصُورةٍ شبه كاملة وأن يُقاتِل وراية إيران تعلوه.
والشيرازيون بدا منهم أنهم لم يُظهِروا خضوعًا كاملًا بل وباتوا يثورون ويتمردون على المرجعيات الإيرانية وشنوا هوجةً ثوريةً على القوالب والتابوهات الحاكمة مستعيدين صُورتهم الأُولى والتي كانت تظهر في خطابهم الثوري، ولكنه خُبِت بمرور الزمن في ظل ارتفاع معدلات الطُقوس التعبُدية والمغالاة فيها حتى بدّلت صورة التشيع الي أسسها الإيرانيون.
لكن يبدو أن هذه الثورة وهذا التمرُد قد تأّتى في وقتٍ ليس بجيد بالمرة، وقتٌ يقوم فيه خامنئي بمحاولة مُداواة الجِراح ولملمة التداعيات التي تُركِت في جسد النظام على إثر تظاهرات ديسمبر 2017 / يناير 2018.
وهذا عبر هجومٍ كاسح يشُنه خامنئي على كافة أجهزة الدولة، أو التيارات، أو الجماعات، أو الأفراد الذين ظهر منهم أن كان لهم يد في التظاهرات، أو أظهروا تعاطفًا ضمنيًا معها أو أيدوها، مهما كانت سطوتهم أو نفوذهم أو ى ممآلتهم للنظام الحاكم نفسه، ومحاولته العقد والإحكام بقوة على كل هؤلاء لئلا يتكرر منهم مثل هذه السلوكيات مجددًا، أو تُسوّل لهم أنفسهم بالانضمام لمثل هذه الحركات التمرُدية.
فأصبحوا أمام فُوهة مدفع خامنئي، وقد يكون عقابهم أكثر شدةً مما حدث لنجاد نفسه، إذ أنهم رجال دين محسوب خطابهم على خطاب النظام ومرجعيته المذهبية نفسه فكيف لهم أن يثوروا على النظم، ووظيفتهم أن يُوقِفوا هذه التحرُكات وتشتيتها وفضّ الجماهير من حولها.
وسيُصبِح على الشيرازيين الصمود طويلًا أمام غضب خامنئي الذي من المحتمل بقوة أن يُوجه رجاله من قُوة الحرس الثوري إلى تصفية النُفُوذ الشيرازي من إيران وتحجيمه وتأطيره حتى سحقه، إن دفعت الأمور خامنئي لذلك. فلم تكُن الأُمور يومًا من الظاهر أن تصل لذلك، وأن عملية الاعتقال هذه ستدفع الباحثون إلى تغيير رؤاهم والتي تبنوها سنين عددًا من أن مهما كانت تصل درجة سُوء الأمور بين المرجعيتين الشيرازية والخامنئية فهي لن تتعدى كثيرًا ما يُمكِن قوله “زوبعة فنجان”، ولكن يبدو أن الكأس كله بما فيه قد فاض حتى سقط.