بعيدا عن الأسباب والسيناريوهات، أثبتت الاحتجاجات التي شهدتها إيران في أواخر العام 2017 أن شخصيات أصولية راديكالية ضالعة في الدعوة إلى الاحتجاجات بهدف التضييق على الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بسبب طموحه في خلافة علي خامنئي لولايه الفقيه، ما يكشف مؤشرات الصراع الدائر بشأن خلافه خامنئي.
وتأتي تلك المؤشرات في وقت غادر فيه علي خامنئي مقر إقامته بطهران، سرا تزامنا مع تدهور حالته الصحية جراء إصابته بمرض السرطان.
مؤشرات الصراع
فاطمة الصمادي، الباحثة المتخصصة في الشأن الإيراني، نؤكد أن إشارات كثيرة تقول بأن “الصراع على ولاية الفقيه” محتدم اليوم في إيران، ولعل أهم هذه الإشارات قد صدر من مراجع دينية معروفة، منه ما صدر عن آية الله مصباح يزدي يحمل علامات واضحة على هذا الصراع واتجاهه، فقد شَنَّ هجومًا على جهات لم يحددها بالاسم، لكنه شخَّص موضوعَ الخلاف معها بصورة جلية وهو “ولاية الفقيه”.
وأشارت إلى أن هناك خلاصات مهمة في كلام يزدي الذي نشره على موقعه الرسمي على الإنترنت، نضعها كالتالي:
- هناك من يريد إجراء استفتاء بهدف تغيير ولاية الفقيه.
- هناك مسؤولون إيرانيون لا يؤمنون بولاية الفقيه ويعتبرونها ديكتاتورية، وهؤلاء المسؤولون لا يقولون ذلك في الداخل، لكنهم يعتقدون أنهم يفهمون في أمور إيران أكثر من مرشد الثورة، فهم يحملون درجة الدكتوراه في حين لا يحمل القائد هذه الدرجة.
كلمات بعض المسؤولين تكشف أنهم لا يؤمنون بأسس الثورة. - ويرى مسؤولون رفيعو المستوى أن الديمقراطية هي تتويج للفكر الإنساني، وكل نظرية سياسية غيرها أقل تطورًا وعفا عليها الزمن، ولكن عندما يحول القانون دون ذلك فالطريق إلى تغييره هو الاستفتاء.
- لابد من مراجعة للسنوات الأربعين التي مضت والتخطيط للمستقبل، “حتى لا يأتي يوم ونكتشف أن إنجازات الثورة ضاعت هباءً”.
تمجيد لدور حرس الثورة والقول بتعدد أوجه فعالياته ووظائفه. - الإشارات الأخرى وردت على لسان المدعي العام المسؤول عن محكمة رجال الدين، حجة الإسلام والمسلمين، علي أصغر جزائي، وجاءت في ندوة عقد في قُمْ بعنوان: الحوزة والمرجعية: التهديد والمخاطر(2)، ونلخصها كالآتي:
- بعض رجال الدين أعداء متسللون ويعتبرون ولاية الفقيه غير شرعية.
- بعض رجال الدين هم أدوات للعدو الذي يعمل للإطاحة بمكانة رجال الدين من خلال صناعة ألقاب ومرجعيات تقدِّم فتاوى هدفها تدمير هذه المكانة؛ لأن العدو وصل إلى نتيجة بأنه لا يمكن الإطاحة بدور رجال الدين إلا من خلال رجال دين آخرين.
هم يعتبرون ولاية الفقيه أمرًا غير مشروع.
روحاني اسم مطروح لخلافة المرشد
وأشارت فاطمة، إلى أن روحاني اسم مطروح لخلافة المرشد لكن طريقه صعبة وخصومه كثر، سبق هذه الإشارات تسريب لتسجيل جلسة لمجلس الخبراء جرت قبل 28 عامًا(3)، لم يسبق أن جرى بثه، تناقش الجلسة خلافة المرشد عقب وفاة الخميني، ويظهر فيها الراحل، رفسنجاني.
وتشير الجلسة إلى أن انتخاب خامنئي جاء بصورة مؤقتة إلى حين إجراء استفتاء على الدستور الجديد، وهو ما لم يحدث، كما أن لجنة الرئاسة في مجلس الخبراء لم تُشِرْ في بيانها الذي صدر عقب الجلسة إلى كونه “انتخابًا مؤقتًا”. ولوحظ في حديث خامنئي قوله: “من وجهة نظر الدستور ومن الناحية الشرعية فكلامي بالنسبة لكثير من السادة لا يملك حُجَّة المرشد.. فأي مرشد سأكون!!.. في هذه الجلسة تحدث بعض السادة وقالوا إنني لست صاحب نظر في المسائل الشرعية”.
روحاني وخلافة المرشد
في سنوات رئاسته من العام 2013 وحتى قبيل نهايتها في 2017، لم يُطرَح اسم روحاني كواحد من المرشحين لخلافة خامنئي، لكن ومع اقتراب فترة رئاسته الأولى من نهايتها، بدأ اسمه يتردد في الأوساط السياسية الإيرانية.
وفي وقت بدا فيه روحاني في حملته الرئاسية مناكفًا للحرس الثوري وغير راض عن دوره الاقتصادي، عاد في استدارة مفاجئة ليقترب منهم، ذلك أنه يدرك أن الطريق إلى منصب المرشد لا يكون إلا بمباركة من المؤسسة الأقوى في إيران. ومع ذلك، فإن طريق روحاني ليس مفروشًا بالزهور؛ فهو وإن كان معممًا وعضوًا في مجلس الخبراء، ولديه حضور في أوساط رجال الدين، ويقال إنه مقبول لدرجة كبيرة من قبل مرشد الثورة، إلا أن أعداءه كُثر، وملفات الخلاف معه معقدة.
ماذا سيحدث إذا وصل إلى المنصب
وتقول فاطة، أنه إذا تيسَّر لروحاني الوصول إلى منصب “قائد الثورة” فذلك قد يعني تغييرات سياسية واجتماعية تطول “وجه إيران” وهو ما لا يريده خصومه؛ فقد يلجأ -على سبيل المثال- إلى استفتاء بشأن “الحجاب الإجباري”، يكون مدخلًا لإنهاء إشكالية الإجبار التي رافقت لباس النساء في إيران على الرغم من أن روحاني كان له دور كبير في فرض الحجاب(4).
وتابعت قد يعتمد أيضًا سياسات تُحدث انفتاحًا اجتماعيًّا ملحوظًا، ومن الواضح أن روحاني يتلمس بشكل واقعي ما يريده الشباب وهم “أكثرية ويجب الأخذ برأي الأكثرية”، وتحدث عن ذلك صراحة بقوله: إن ما أراه وما لا يريد الإعلام وَجِهاتٌ أخرى أن تراه، هو هذه النقطة الجوهرية التي تُظهرها الأحداث الأخيرة في إيران، وإذا لم نستطع رؤية هذه المسائل الأساسية لن نستطيع الوصول إلى أمن واستقرار طويل الأمد ومؤثِّر في هذا البلد.
ووضعت فاطمة سيناريوهات، ما بعد خامنئي
السيناريو الأول: انتقال سلس، وتعيين مرجع ديني معروف بوصفه مرشدًا أعلى، وذلك يعني استمرار “ولاية الفقيه” كنظرية حاكمة، إضافة إلى استمرار بناء السلطة وتقسيمها بين المؤسسات السياسية على شكله القديم. وقد يسهم آية الله خامنئي نفسه في اختيار خليفته.
ويدعم هذا التوجه بصورة كبيرة التيار الأصولي اليوم الذي يُعدُّ وليدًا لتيار اليمين الإيراني، ويضم في عضويته أحزابًا ومنظمات كان لها دور كبير في المفاصل والمنعطفات السياسية الإيرانية، مثل مجتمع مُدرِّسي حوزة قم العلمية ومجتمع رجال الدين المقاتلين وحزب المؤتلفة الإسلامي وجمعية “مؤثرو الثورة الإسلامية”. ويلتزم هذا التيار بولاية الفقيه المطلقة، ويؤمن بدور أكبر للدين في السياسة، ويدافع عن نظام الجمهورية الإسلامية، ويُطلق عليه اسم “حكم الشعب الديني”. ويخالف بشدة القول بأولوية الجمهورية على الإسلامية، ويدافع عن دور كبير لرجال الدين في إدارة شؤون الدولة(8).
السيناريو الثاني: وصول “ولاية الفقيه” إلى خاتمتها، وإلغاء منصب “المرشد الأعلى”، وهذا السيناريو يعني خللًا كبيرًا سيصيب بناء السلطة في شكله الحالي، خاصة أن البديل عن ذلك سيكون “لجنة” مكوَّنة من عدد من رجال الدين المعروفين والمشهود لهم قد يصل عددهم إلى خمسة أشخاص.
ويعزِّز من هذا الطرح أن فئات كثيرة داخل إيران اليوم تحمل موقفًا ناقدًا لولاية الفقيه، وبعض هذه الفئات ترى أنه منحصر بشخصية الإمام الخميني، وأنه منصب انتهى معه(17). ومع أن هذا السيناريو هو عينه ما تم طرحه بعد وفاة الخميني، إلا أن المؤسسات التي كانت تحكم إيران في ذلك الوقت أبدت قدرة كبيرة على الدفع بمرشد جديد، وإجراء تعديلات دستورية لتسهيل قبوله وصعوده، وكان للراحل، آية الله رفسنجاني، الدور الأبرز في تذليل العقبات التي كانت تعترض خامنئي في طريقه نحو منصب المرشد.
ولا يمكن إنكار ما أصاب ولاية الفقيه في الاحتجاجات التي شهدتها إيران عقب إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية العاشرة عام 2009، وهي الاحتجاجات التي عبَّرت عن نفسها بالحركة الخضراء، وتصاعدت شعاراتها من التشكيك بالنتائج وشعار “أين صوتي؟”، إلى الهتاف ضد المرشد ووصفه بالديكتاتور عبر شعار “الموت للديكتاتور”، وصولًا إلى إحراق صور الخميني، وهتاف ضد مجتبى خامنئي وهو واحد من الأسماء المطروحة كمرشد قادم.
لكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار، أن مؤيدي الولاية والمعتقدين بكفاءتها كنظام حكم هم الممسكون بزمام السلطة في إيران اليوم، ويوجدون -على وجه الخصوص- في مجلس الخبراء، ومجلس الشورى والحرس الثوري، وحتى في التيار الإصلاحي.
السيناريو الثالث: تعديلات دستورية تأخذ عددًا من الصلاحيات الواسعة للمرشد وتضيفها إلى الرئيس المنتخب، لكن هذا السيناريو سيخلق صدامًا مع المدافعين عن ولاية الفقيه المطلقة، وخاصة بين المراجع الدينية، كما أنه سيضع تساؤلات بخصوص مستقبل مجلس الخبراء ووظيفته، وقد يقود ذلك إلى إلغائه.
ومن المؤيدين لهذا التوجه: تيار اليسار الإيراني، الذي بات يأخذ اليوم اسم التيار الإصلاحي، ويضم في عضويته أحزابًا ومنظمات أهمها “مجمع رجال الدين المقاتلين”، ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية وحزب المشاركة المحظور، ومكتب تحكيم الوحدة وحزب كوادر البناء ومجمع مدرسي ومحققي حوزة قم العلمية وحزب الثقة الوطنية.
وقد شهدت مواقف التيار تحولًا كبيرًا على صعيد الموقف من ولاية الفقيه، فبعد أن كان مدافعًا عنيدًا عن ولاية الفقيه المطلقة القائمة على التعيين زمن الخميني، أصبح ينادي بولاية فقيه تقوم على الانتخابات وبتحديد صلاحيات الولي الفقيه، والبعض داخل التيار ينادي بـ “وكالة الفقيه” بدلًا من ولاية الفقيه، وبعض منظِّريه لا يؤمن أساسًا بولاية الفقيه، ويقدِّم الجمهورية على الإسلامية.
السيناريو الرابع: إلغاء منصب الرئيس ودمجه مع منصب المرشد، ليتمَّ انتخاب شعبي، لكن انتخاب المرشد باقتراع شعبي يتصادم مع نصوص دستورية واضحة حول طريقة اختيار المرشد، كما يتصادم مع موقف رجال الدين القائلين بأنه قائم على التعيين.
سيناريو الفوضى: وهو السيناريو الذي قد ينتج عن الفشل في تعيين مرشد جديد، والسعي لإلغاء منصب المرشد، ومحاولة المعارضة استغلال خلوِّ المنصب للبدء بالاحتجاج، وإذا ما حدث ذلك -رغم أنه لا يمكن الحديث اليوم عن معارضة صلبة في إيران تسعى لتحقيق هذه الأهداف- فإن الحرس الثوري سيسارع للإمساك بزمام السلطة في إيران، وهو قادر على ذلك بفعل ما يتمتع به من نفوذ وفاعلية على الأرض، وهذا الخيار لا يفضِّله حتى المعارضون لولاية الفقيه.